مع ابتداء المسار الجهنميّ منذ سنةٍ ونصف السنة، وتكثّفه في الشهرين الأخيرين محولًا المدن والقرى في الجنوب والبقاع والضاحيّة الجنوبيّة إلى أرضٍ يباب؛ تظهر خصوصيّة المكّان عند أهله، كعنصرٍ سائلٍ، مفقود، ومتوافر فقط في ذاكرتهم، وهم قابعون في "اللاأمكنة" الموقتة والعابرة. في خضّم هذه الوحشة الجماعيّة الّتي ينوء بحملها اللّبنانييون والمُهجّرون منهم خصوصًا، تحاول "المدن" لملمة هذه الذاكرة المكانيّة والجمعيّة وتدوّينها، في محاولةٍ لإنعام النظر أكثر في مآلات الأماكن الملعونة بالحروب المتكرّرة. وما هذا سوى اجتهادٌ لأرشفة هذه الحقبة من تاريخ لبنان، عبر سِيرٍ شخصيّة تصلح لأن تكون مُعبّرة عن سيرة الجماعة والبلاد. وهنا حلقةٌ رابعة، مع الناشرة والروائيّة رشا الأمير، ابنة الضاحيّة أو كما تُحبّ تسميتها بـ "أرض العودة".
نهاتف رشا الأمير، بعدما تعذّر لقاء الروائيّة المعروفة في الأوساط البيروتيّة، في مدينتها. نهاتف رشا الأمير، لتفقد أحوال دارة "آل سليم" الشهيرة في حارة حريك، المنطقة الأكثر استهدافًا في موجة الغارات، دارة أجدادها الّتي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، ومركز مؤسسات "دار الجديد" للنشر، و"أمم للأبحاث" والهنغار والحديقة الّتي تحتضن ضريح أخاها الكاتب والباحث لقمان سليم، الذي جرّى اغتياله في العام 2021.
في خلفية المكالمة، نسمع دوّي الغارات الجويّة الّتي تستهدف الضاحيّة الجنوبيّة الّتي تتردّد لمكّان إقامة رشا. في خلفية المكالمة، تسمع رشا الأمير دوّي الانفجارات الّتي تهزّ مكاتبنا في بيروت، أيضًا. لتقول لنا المرأة دمثة الخلق، صاحبة اللسان الناطق بالفصحى الرشيقة، في مقدمة كلامها، بكل تؤدةٍ وبشيءٍ من الحسرة "عسى نعود إلى بيوتنا. عسى دولة عادلة، إنسانة، ذكيّة ومعاصرة. عسى مدن تقوم ضدّ فكرة الغيتو. مدنٌ نموذجيّة تحبُّ الشيخ والطفل والمريض. وليس مدن وحشة تلتهم، تدمّر وتحتقر".
خسارة رشا، هائلة. وهذا ما يتبدى في صوتها المتهدج، المشوب بحسرةٍ بالغة على المدينة والدارة ولبنان.(مشاهد من دارة "آل سليم" في آخر زيارة لرشا الأمير لها قبل اشتداد القصف، فيما يبقى مصير الدارة مجهولًا)الدارة المسالمة الّتي لم تسلم"أتتبع الخرائط الّتي ينشرها المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ، لمحاولة معرفة أين بالضبط وقعت الغارات، قياسًا لدارتنا، وكلّه قريب، الضاحية كبيرة وفي الوقت عينه صغيرة، هي مترامية وواسعة جدًا، ولم تعد القرية الّتي سكّن أجدادي وأهلي فيها". تقول رشا الأمير، لدى سؤالها عن مصير دارتهم، مضيفةً: "زرت الدارة أثناء الهدن المؤقتة وغير المُعلنة على الضاحيّة، زرت الضاحية مع زائريها، في المرة الأولى التي زرت فيها الضاحية بعد سلسلةٍ من الغارات، اكتشفت وجود كاميرا مثبتة على المدخل الرئيسي لمنزلنا، وضعها حزب الله لمراقبة لقمان. هذه الكاميرا التي تم وضعها لمراقبتنا أصابتها طائرة مسيّرة إسرائيلية، وتسببت بأضرار في المدخل والجدران والزجاج. أعتبر أن هذه كانت أسوأ مرة وصلت فيها النيران إلى عتبة منزلنا، إن صح التعبير. واليوم، في كل مرة أسمع فيها أصوات القصف، ألتفت نحو الضاحية وأراقب لأتأكد ما إذا كان الحريق قريبًا من منزلنا، وأتسائل في نفسي: كم من أغراضنا وما لدينا سيسلم؟".
(انهيار مدخل الدارة من شدّة الغارات الجويّة - رشا الأمير)
تستطرد متسائلةً: " وعلاوة على ذلك، يُهاجمونك دائمًا ويقولون إنك تسمعين وجهة النظر الإسرائيليّة بتتبعنا للخرائط وسخطنا من الاستحكام بمصائرنا ومصائر منزلنا، لكن أعطونا وجهة نظركم! ألا يُفترض أن نعرف الأخبار منكم وليس من الأعداء؟ يفترض أن تخبرونا أنتم بما يحدث هنا. لا يوجد لدي سوى معلومات محدودة؛ فأنا صراحةً لا أعلم ماذا يوجد مقابل منزلي. بمعنى آخر، أعرف ما يحدث داخل دارنا فقط، لكن ما هو أبعد من ذلك بقليل، لا أعلم ماذا يوجد تحت الأرض أو فوق الأرض. هؤلاء الناس يعملون دائمًا، وكأنهم يعيشون في دهاليز، وهذا الدهليز هو ما أوصلنا إلى هذه المشكلة وجعل الضاحية مكروهة؛ الناس ينظرون إليها وكأنها إهانة، وكأنها شتيمة. لكن، في الحقيقة، اسمها ليس "الضاحية"، بل "ساحل الأمراء"؛ الّتي كانت عبارة عن بساتين، وينبغي أن تعود بساتين. لو كان هناك أشخاص فعلًا يهتمون، لزرعوا هذه الأرض من جديد، وأعادوا رائحة الليمون إليها بدلاً من رائحة المجاري. هذا عمل بشري، وليس أمرًا إلهيًا. نحن قررنا أن نبقي هذه الأرض مزدهرة بالبساتين، وأن تكون لنا جنينة وأشجار، فهذا ما قرره والدي، ونحن قررنا أن نكمل هذا المشوار. هذا البلد يستحق أن يكون مليئًا بالأشجار والروائح الطيبة بدلاً من الخوف والدموع، لأن الضاحية بالنسبة لي ليست فقط "الضاحية"، بل هي ساحل المتن، ساحل الأمراء، هي أرض العودة الّتي تمّ تشويهها".موت الذاكرةتضيف الأمير بأسى: "نحن فلاّحون، ولا أعلم من أين جاء آل سليم، لكنهم كانوا فلاحين، جاؤوا وزرعوا هذه الأرض. جدّي الأكبر كان فلاحًا، بالإضافة إلى عمله كعامل. بعد ذلك، أصبح جدي تاجرًا، وكان والدي يؤمن بالتعليم، فتعلموا. والدي كان محاميًا ونائبًا، وعمّي كان قاضيًا، ولذلك كان التعليم هو القيمة الأعلى لدينا. لم يكن السلاح هو القيمة، بل كان العلم. كان والدي يقول لي: "سلاحك هو العلم. تعلّمي يا ابنتي، تعلّمي." بالنسبة لنا، نحن اللبنانيين الشيعة في ساحل المتن الجنوبيّ، التعليم كان الأهم بالنسبة لنا". تتوقف لتقول: "لكن هذا كلّه تهدّم اليوم".
نسألها عن خساراتها، وخسارات الدارة والأضرار الّتي لحقتها لتقول: "أنا لا أخاف على الحجر، بل أخاف على البشر. أخاف على الذاكرة. فكلما مات شخص، تموت شجرة، وتضيع أشياء كثيرة. وهذا أمر صعب للغاية. هذه الذاكرة، هل تعتقدين أنها ستضمحل في هذه المنطقة؟ نعم، كلما قُتل إنسان، ذهب جزء من الذاكرة. يصبح من الصعب للغاية إعادة بنائها. يمكن إعادة بناء الحجر، لكن كيف يمكن خلق أشخاص لديهم طموحات وأفكار من جديد؟ ماذا عن المؤسسات الموجودة اليوم داخل الدار، مثل المطبعة والكتب؟ هل نعرف شيئًا عن مصيرها؟ فكّرنا كثيرًا في إخراجها، لكن تبين أن الأمر مستحيل. العديد من الكتب لا يمكن إخراجها، وهذا يعني أن مصيرها سيكون مثل مصير لقمان. لن أحزن على كتب وأوراق أكثر من حزني على لقمان. بعد أن يذهب الإنسان، ماذا يتبقى؟ من سيحافظ على هذه الذاكرة؟ على من يجب أن نعوّل؟ يجب أن تفكري فيمن سترثينه، إن كان هناك أحد يرث هذا الحلم".
(دارة "آل سليم" قبل الحرب) القريّة الّتي أصبحت غابة إسمنتيةومن حديثها عن منزل "محسن سليم" الذي تعرض لأذى جراء الغارات أو كما معروف بـ "دارة آل سليم"، تستحضر الأمير، مآلات المنطقة السّاحلية الّتي احتضنت دارتهم منذ عشرات السّنين، وطبيعة التبدل العمرانيّ والثقافيّ الذي لحقها على مرّ السنوات، بالقول: "في الخمسينيات والسّتينيات فكروا أن يجعلوا من هذه المنطقة، الّتي كانت مجموعة قرى، "بيروت الجديدة"، لأنّها تقع على أبواب بيروت، وليست مجرد ضاحية بالمعنى التقليديّ. فالغبيري هي بيروت نفسها، هي تلك السّواحل الّتي كان الناس يذهبون للاستجمام فيها: سان سيمون، سان ميشيل، وغيرها. ومع مرور الوقت، بدأت المعالم العمرانيّة لهذه القرى تتغير شيئًا فشيئًا. كانت هذه القرى تتألف من مزارع وبساتين. مثلاً، كانت حارة حريك الّتي سكنها أجدادي تشتهر برائحة الليمون، روايح الأرض، أرض أجدادي، نسميها "العودة"، لأنها المكان الذي نعود إليه دائمًا. لكن هذه البساتين تحولت تدريجيًا إلى غابة من المباني والشقق بسبب الهجرات، فلم تكن تلك الهجرات أول مرة تحدث من لبنان إلى لبنان. أهل البقاع وأهل الجنوب قدموا إلى هذه المناطق مع الحرب التي مر عليها مئة عام، وخلال هذه المدة حدثت هجرات كثيرة، ولم تعد هناك بساتين بل أصبحت مباني مزدحمة ومهملة دون أي تخطيط حقيقي، مثل إقامة حدائق أو مساحات خضراء".
"هذه الضاحية هي بوابة بيروت، وهي بيروت الجديدة. لكن لم تأتِ أي جهة حكومية على مدار المئة عام الماضية لتخطط وتبني ملاعب أو حدائق عامة أو مواقف سيارات. كل شيء كان عشوائيًا، مثلما يُقال في مصر: بناء عشوائي وفوضى. وبالتالي، في ظل هذا القدر من الفوضى والضبابية، لا توجد دولة حقيقية، ولا أدري ماذا يجري".
تختم رشا الأمير، المرأة الّتي فقدت دارتها: "هؤلاء الناس يجب أن يبنوا حدائق، ويبنوا مدنًا للحب، وليس للكراهية. كل سياستهم قائمة على كراهية الآخر وعلى الحروب. نحن كنا نعيش بسلام، ونحاول التعايش مع الجميع، ولم نرد القتل أبدًا. ليس لأنهم قتلوا نرد بالقتل، أبدًا. هذا هو الفارق. هناك فرق أيضًا في النظرة للعالم. هم يؤمنون بحربٍ لا نهاية لها، بعداوة دائمة، ولم يقل أحد يومًا "نريد التوقف، نريد التفكير، نريد فقط القتال". هذا قد يُحارب، ولكن، لا أدري ماذا أقول لكِ، هذه هي القصة، لا شيء آخر".