تُعرض مسرحية "قبل ما فلّ"، ضمن سلسلة عروض في مسرح مونو، من إخراج شادي الهبر وكتابة ديمتري ملكي، وتمثيل كمال قاسم يرافقه كريس غفري وعلي بيضون، ومن إنتاج مسرح "شغل بيت".
طاولة مشرحة هي كل عرض "قبل ما فلّ" على مدى خمسين دقيقة. يؤدي كمال قاسم بحضور لافت وبأدوات ممثل متمكّن من صوته وجسده. هنا مجموعة من العناصر المجتمعة التي تجعل العمل مميزاً، في مقدمتها نص ديمتري ملكي الذي يملك أكثر من أربعين عاماً خبرة في الكتابة المسرحية، والبحث عن مضامين وأساليب تعبيرية تواجه بجرأتها المتلقي وتنقل عبر حوار سلس مشغول ومركب، موجات من المشاعر والأحاسيس المضطربة. إضافة إلى تجربة إخراجية لشادي الهبر هي الأولى له كتحدٍّ مكاني ضيق يدير فيه ممثله بحركات "مينيمالية" متقشفة وبتلاعب صوتي ينقل عبره حكاية شاب يعيش زفراته الأخيرة ويمرّر من خلالها شريط عمره في مواجهة صادمة. من الطفولة الى العائلة، ومن تجربة اكتشاف الموت مع رحيل الأب، إلى اكتشاف الخوف على مقاعد الدراسة والنظام التربوي الصارم، إلى الحرب التي تحتل معظم حياة رجل يهم بالرحيل عن هذه الأرض. حكاية شباك يطل على طائرات تحطّ وتطير، مع حكايات الشاب واكتشافاته الأولى في الخوف والموت والفقد، والحبّ المنتظر الذي لن يأتي. تقشفيخوض الهبر، تجربة جديدة، قوامها جسد الممثل وصوته، بالحد الأدني من التعبير الحركي، والحد الأقصى من التعبير الداخلي عن مكنونات نص ديمتري ملكي المكثف والصعب، باللحاق بصوره البديعة والحميمة. ممثل واحد، إلى جانب ممثلين مساعدين صامتين إلا من مرافقات مكملة لحركة الجسد أو متصادمة معه أو مشاهدة له، من دون أن تنبس ببنت شفة.عن التجربة يقول شادي الهبر لـ "المدن": "أردتُ الأداء متقشفاً في الحركة وصادماً في الشريط الصوتي، لشاب يوشك على لقاء الموت. أردت ان يكون مشحوناً، مثل صرير الأسنان والصمت والصراخ الفجائي حين تمر حياته أمام ناظِريه كشريط ذكريات". يضيف: "بعد مسرح مونو سينتقل العرض إلى مسرح شغل بيت، حيث المسافة أقرب بين العرض والجمهور، كما أعدّ تجربة داخلية، قوامها العرض وعدد من الكتّاب والمتخصصين المسرحيين، لنكتب معاً ما يشبه كتيباً صغيراً عن التجربة وآفاق تطويرها. من الأداء إلى النص والإضاءة اليدوية التي تُعتبر الشخصية الرابعة في العمل، والتي تعمل بطريقة التنقيب عن وجه الممثل وجسده، إضاءة متحركة تتحرّك باليد على شكل فوانيس طوال العرض".النص الأخيروبعد شراكة سابقة بين ديمتري ملكي وشادي الهبر، في "رحيل الفراشات"، يقدّم ملكي نصه الجديد ومحوره الإنسان في صراعه مع الذات والموت والوحدة والطفولة. "كتبت هذا النص كأنه النص الأخير"، يقول ملكي لـ"المدن"، "وبعد أربعين عاماً من كتابة النصوص خلتُ أنّ هذا النص سيكون نص الوصية وقد فرض عليّ أسلوب كتابته انطلاقاً من مضمونه". مونولوغ أخير مع الذات في لحظات حياتها الأخيرة، فيها التذكّر والعتب والنقد الشديد، من الطفولة إلى كنف العائلة، ومن النظام التربوي إلى الاجتماعي وأحكامه التي ينتج عنها الخوف."إذا بتشق إيدي، بينزل منها خوف"، تقول الشخصية في المسرحية، وهو الخوف التربوي والاجتماعي، وصولاً إلى الخوف الأكبر الذي احتل مساحة عمر الكاتب، ألا وهو الحرب.نص فيه الاكتشافات الأولى من الصداقات في المدرسة إلى وصايا الراهبات، ومن اكتشاف الموت مع فقدان الأب في سن مبكرة، إلى اكتشاف الحبّ والخسارات وانتظار شيء لن يأتي أبداً. نص مكثف ومونولوغ طويل غني بالتفاصيل والأحداث، يرسل المشاعر للمتلقي لمشاركته في تلك الحالات والأحاسيس... الطفل الذي يراقب من خلف الشباك، صعود وهبوط الطائرات، يراقب أيضاً حركة المراحل والتحولات لدى بطل المسرحية، لا سيما الحرب التي حوّلت شخصيته إلى شخصيات متعدّدة في بدنٍ واحد. شخصيات ليست بالضرورة منقسمة بين الخير والشر، إنما هي متكاتفة أو مساندة أو متعارضة، قد تحمل الألوان المتدرجة بين الأسود والأبيض، والرمادي كحلٍّ وسط لتدوير القرارات الصعبة. أما الشخصيتان الصامتتان على خشبة المسرح، فتغسلان جسد المتهيء للرحيل وتقاسمانه المشاعر، تارة تعترضان على أفعاله وتارة تتعاطفان معه. وفي الحالات كافة، هما اللتان تحملان المصابيح اليدوية لتضيء جوانب من الشخصية وأجزاء من جسدها."قبل ما فلّ" أعادت الجمهور الى المسرح في ظل الأوضاع الأمنية الصعبة، وستواصل العروض وتجرب الأماكن الصغيرة والحميمة خارج خشبة المسرح.