فجر السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024. يغلب الأرق النعاس. العيون على الطرق. ينشغل الرأس بالناس عاقدي العزم على العودة، وإن كانت إلى خلاء أو دمار أو ركام. همّهم أن يعودوا إلى أرض نزعت منهم ونزحوا عنها بعدما تشبث بها طوال عقود من القتال والنضال ودفع تكاليف الاعتداءات. إنهم أبناء الجنوب، وأنا منهم. في اندفاعتهم، أرادوا إثبات الكثير، أنهم "صامدون هنا.. قرب هذا الدمار العظيم". أنهم انتصروا بحفظ وجودهم وبقائهم. أنهم عائدون إلى الأرض ضد مشاريع التهجير أو التغيير الديموغرافي.
أعادني المشهد 24 سنة إلى الوراء، إلى لحظة التحرير العام 2000، وهذا الدفق الكبير من الناس نحو الجنوب، بالقرب من فلسطين. ومع مشاهد العودة، استعادة لرائعة محمد منير عن سناء محيدلي، يتردد الصدى واللحن في رأسي: اتحدى لياليك ياغروب، واتوضا في صهدك يا جنوب، وأصلّي الفرض الحطيني، واكتبلك عمري المكتوب، احضانك فوق الحنيه، يا جميلة ومريم وبهية، يتفجر في الموت بركانك، وإيمانك يتفجّر فيّا، الدم على الأرض خريطة مشتاقة ليوم الحرية، أشلائك بتلمّ جراحي يرتعش الغدر وترتاحي، ويعود الحلم المسلوب، يا ضيّ عيون الشهداء، يا زهرة صيدا وسيناء، الثانية من عمرك تحييني، ابني واتبسّم وأشاء، كلمة من سيرتك تهديني للأقصى يعود الإسراء". ولسناء محيدلي، حكايات كثيرة مع أبناء الجنوب، هي الزنبق المتفجّر. نشأنا على سيرتها، وعمليتها الاستشهادية في نيسان 1985، في بطن الجبل المقابل لبلدتنا. فجّرت سناء زنبقها بحاجز باتر الإسرائيلي، وبقي الناس لسنوات يترجلون إلى "مرج بسري" ومحيطه بحثاً عن أشلائها التي تناثرت في المكان. ولسناء حكاية شخصية، إذ ما شبّينا عليه هو أن لوالدي علاقة في تنظيم وتنسيق عمليتها الاستشاهدية. ما بعد قصّة سناء، رويت لنا حكاية خالد، خالد علوان الذي أفرغ مسدسه في ضابط إسرائيلي وجنديين على رصيف مقهى الويمبي في الحمرا، إذ عندما طلب الإسرائيليون حسابهم في المقهى وأصروا على الدفع بالشيكل، صرخ بهم خالد "الحساب علينا" وأسدى الرصاصات إلى الرأس والصدر. كل هذه الحكايات قفزت إلى الذاكرة في هذه اللحظة، مع مشاهد كثيرة من صباح 14 آب 2006، مشهد العودة المهيب لأبناء الجنوب بعد 33 يوماً من الحرب الإسرائيلية. هذا الجنوب الذي يُنظر إليه كبوابة للسماء، أو بوابة إلى المسرى نحو السماء. وها هي العودة اليوم تتجدد، بإصرار الجنوبيين، على الرغم من تهديدات الجيش الإسرائيلي لتأخير عودتهم، طالما أن قواته ما زالت موجودة على الأرض اللبنانية. إنها العودة المباشرة، والتي تذكر بسنوات الاحتلال، عندما لم يقلع أبناء الجنوب عن زيارة بلداتهم على الرغم من الاحتلال والحواجز. كانت الزيارة مشقة، أما اليوم فالعودة فيها طعم حلو، فوق مرارة الخسارة والفقد. يعود العائدون، بعضّة على جرح، جرح لن يكون من السهل عليهم اختتامه. هم يعودون بعد خسارتهم لمن عودهم دوماً على رواية حكايات الانتصار وتفاصيله. ليست الخسارة في ما تراكم من دمار، بل في فقدان هؤلاء سيّدهم، والذي بخسارته ستكون هناك متغيرات كثيرة، لا بد من انتظارها. فحسن نصرالله كان مثار "غيرة" لكثير من السياسيين. وفي بدايات نشأتنا، تعايشنا معه بحب في سبيل التحرير، وحنق واستفزاز بوصفه "المقاوم" الوحيد ضد الاحتلال، علماً أن أحزابنا التي كانت في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، هي مُطلقة النضال وصاحبته منذ تحرير بيروت. فكانت الغيرة من نصر الله مضاعفة، لقدرته الخطابية وإحاطته السياسية الشاملة وكاريزماتية، وعدم القدرة على تجاوزه أو تجاوز سماعه في أكثر لحظاته إقناعاً لجمهور واسع. ولتربّعه على هذا المسرح وحيداً، فيما نحن نشعر بيُتم لغياب بمن به نؤمن. إنه فجر جديد، أشرقت شمسه على أهل الجنوب، من الجنوب. إنها عودة بفرح، ودمعة، بمشاعر طفولية طاغية، وبعيون تشخص إلى مستقبل فيه الكثير من التحديات والمعاناة، وبكثير من الدندنة مع أحمد قعبور للرايح صوب الليطاني، أن يوصل السلام للنبطية والخيام، وقلها أنه الحج محمد مشتاق لأهله ورفقاته.. بحي السلم ما اتهنوا، اشتاقت عينه لتراباته.. قلها عيونه نامت لكن صاحي قلبه ما بينام.