في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها سوريا، جاء الإعلان عن فتح باب الاستثمار في قطاع الطاقة وفق نظام "BOO" (البناء – التملك – التشغيل)، كخطوة تثير الكثير من التساؤلات حول مدى جدواها في غياب الاستقرار السياسي والقانوني، وعدم وجود إطار واضح ينظم آلية الاستثمار في البلاد. الحكومة الانتقالية، التي يفترض أنها تقود البلاد نحو الاستقرار، تجد نفسها في مواجهة تحديات مالية ضخمة، ما دفعها للجوء إلى هذا النموذج الاستثماري الذي يتيح للقطاع الخاص تمويل مشاريع البنية التحتية وتشغيلها، مع احتفاظ الشركات بملكية المشاريع بشكل دائم. ومع ذلك، فإن القرار يثير مخاوف جوهرية تتعلق بالسيادة الوطنية، وعدم قدرة الدولة على استعادة السيطرة على أصولها الحيوية، فضلًا عن تأثيره المحتمل على المواطنين الذين يعانون من أوضاع اقتصادية كارثية.
إذاً اتفقنا على أن الاختيار بين نماذج الاستثمار المختلفة لا يجب أن يكون عشوائياً، يبرز أمامنا تساؤل جوهري: لماذا تم اختيار نظام "BOO" بدلاً من نظام "BOT" (البناء – التشغيل – النقل)؟ الفارق الجوهري بين النموذجين يكمن في أن "BOO" يمنح المستثمر ملكية المشروع بشكل دائم، في حين أن "BOT" يمنح الشركات امتيازاً لإدارة المشروع لفترة محددة، ثم تعود ملكيته إلى الدولة. في ظل بيئة سياسية غير مستقرة، كان من المنطقي أن يتم تفضيل "BOT" لضمان عودة الأصول الحيوية إلى الدولة بعد فترة الامتياز، لكن يبدو أن الحكومة الانتقالية فضّلت "BOO" لأنها لا تملك موارد مالية ولا ترغب في تحمل مسؤولية استعادة المشاريع لاحقاً، كما أن المستثمرين قد يكونون أكثر انجذاباً لنظام يتيح لهم تملك المشاريع بشكل دائم، ما يعني ضمان تحقيق أرباح طويلة الأمد دون القلق من فقدان السيطرة. لكن في المقابل، فإن هذه السياسة قد تؤدي إلى ارتهان الدولة السورية مستقبلاً للقطاع الخاص أو حتى للشركات الأجنبية، مما يهدد سيادتها على أهم مواردها الحيوية.
إلى جانب المخاطر السيادية، يواجه نموذج "BOO"، تحدياً اقتصادياً كبيراً يتمثل في قدرة المواطنين على تحمل تكلفة الخدمات التي سيتم تقديمها عبر هذه الاستثمارات. سوريا اليوم تقع في ذيل قائمة الدول من حيث دخل الفرد، حيث لا يتجاوز متوسط الدخل السنوي 300 دولار، مما يجعل من الصعب تصور أن السكان سيتمكنون من دفع أسعار مرتفعة مقابل الكهرباء أو المياه أو أي خدمات أخرى يتم توفيرها عبر هذه المشاريع. في الأنظمة الاقتصادية المستقرة، يتم تحقيق التوازن بين مصالح المستثمرين والمستهلكين من خلال إطار قانوني ينظم الأسعار ويضمن عدالة الوصول إلى الخدمات، لكن في حالة سوريا، حيث تغيب القوانين المنظمة، لا يوجد ما يضمن أن الشركات لن تستغل الوضع لتحقيق أقصى ربح ممكن على حساب المواطنين.
الخطورة الأخرى تتمثل في عدم وجود بيئة قانونية وقضائية تنظم هذه الاستثمارات. مع استمرار حالة الفراغ الدستوري، وعدم وضوح صلاحيات القيادة الانتقالية فيما يتعلق بإدارة القطاع العام والاستثمارات، يصبح أي عقد يتم توقيعه اليوم معرضاً للطعن مستقبلياً، سواء بسبب تغييرات سياسية أو نتيجة عدم توافقه مع الدستور الذي قد يتم وضعه لاحقاً. هذا الغموض يفتح الباب أمام نزاعات قانونية مع المستثمرين، ويفتح المجال أمام الفساد والمحسوبيات، حيث يمكن أن تتحول هذه المشاريع إلى صفقات مغلقة تستفيد منها فئات محددة دون ضمانات حقيقية بتحقيق منفعة عامة.
في ظل هذه التحديات، جاء تعيين حازم الشرع، شقيق أحمد الشرع، رئيس سوريا في المرحلة الانتقالية، مديراً للهيئة العامة للاستثمار، ليزيد من تعقيد المشهد. هذا القرار، الذي قد يبدو إدارياً بحتاً، يحمل دلالات سياسية خطيرة، حيث يعيد إلى الأذهان مخاوف السوريين من عودة حكم العائلة والتفرد بالسلطة. حتى لو كان الشرع يرغب في إحاطة نفسه بفريق يثق به، فإن هذه الخطوة ترسل رسالة سلبية إلى المجتمع الدولي وإلى السوريين أنفسهم، مفادها أن السلطة الانتقالية قد تسير في نفس النهج السلطوي الذي عانى منه السوريون. في بلد خرج لتوّه من تجربة حكم فردي دامت لعقود، لهذا السبب من الضروري أن تكون الأولوية لإعادة بناء مؤسسات قائمة على الكفاءة والاستقلالية، وليس على الولاءات الشخصية.
المسألة هنا ليست فقط اقتصادية، بل تمتد إلى البعد السياسي والاجتماعي. سوريا اليوم بحاجة إلى استعادة الثقة بين الحكومة والشعب، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة. طرح مشاريع استثمارية ضخمة في بيئة غير مستقرة قد يبدو كخطوة سابقة لأوانها، حيث لا يمكن بناء اقتصاد مستدام دون وجود دولة مستقرة، وقوانين واضحة، ومؤسسات قادرة على ضبط وتنظيم السوق. لهذا، فإن الأولوية يجب أن تكون لإعادة بناء الإطار القانوني والمؤسسي أولاً، قبل الحديث عن استثمارات ضخمة قد تتحول إلى عبء جديد على الاقتصاد والمواطنين.
في النهاية، يمكن القول إن قرار اللجوء إلى "BOO" بدلاً من "BOT"، قد يكون مفيداً للحكومة الانتقالية على المدى القصير، لكنه يحمل مخاطر طويلة الأمد على الاقتصاد السوري، والسيادة الوطنية، والمواطنين الذين قد يجدون أنفسهم مجبرين على دفع ثمن سياسات اقتصادية غير مدروسة. المرحلة المقبلة تتطلب تعاملاً أكثر شفافية مع الملفات الاقتصادية، وإعطاء الأولوية لإعادة بناء المؤسسات قبل اتخاذ قرارات قد تترك آثاراً سلبية لعقود مقبلة.