أخيراً، حُسم أمر مشاركة سوريا رسمياً، للمرة الأولى، في مؤتمر المانحين المعني بها. وتوجّه وزير الخارجية، أسعد الشيباني، إلى العاصمة البلجيكية، بروكسل، ليحصد شرعية دولية إضافية لنظام الحكم الجديد القائم في دمشق.قبل ذلك بيوم فقط، كانت الشكوك قد بلغت أقصاها، حيال حصول تبدلٍ نوعي في العلاقة الحذرة، لكن الإيجابية، التي بدأت تتوطّد بين الإدارة الجديدة في دمشق، وبين دول أوروبية بارزة، في مقدمتها فرنسا وألمانيا. فبعد أن طُويت فرصة حضور الرئيس أحمد الشرع شخصياً لمؤتمر بروكسل، أوحت تصريحات نقلتها قناة "الجزيرة" عن مصادر بالخارجية السورية، بوجود انتكاسة خطرة في مسار التفاهمات الممكنة مع الأوروبيين.
لا نعرف طبيعة التسوية التي قادت الشيباني إلى بروكسل، بعد أن كانت وزارته قد أصدرت تصريحاتها النارية، التي حذّرت فيها من الاعتكاف عن حضور المؤتمر، إن كان "يروّج لأجندات خارجية تتعارض مع سيادة سوريا ومصالحها الوطنية"، أو إن كان "مسيّساً لخدمة روايات محددة". ومن الصعب أن نعرف الآن، إن كانت القيادة في دمشق هي من تراجعت، أم أن مرونة أوروبية شجعت الدبلوماسية السورية على حسم أمرها بالمشاركة. أو إن كان طرف ثالث، إقليمي مثلاً، قد تدخّل لتقريب وجهات النظر. لكن ما يمكن الجزم به، أن هناك رغبة جادة من الطرفين المعنيين، في إنجاح الهدف من هذا المؤتمر، وهو مساعدة الدولة السورية اقتصادياً، كي تقف على قدميها. لأن البديل، لن يكون في صالح أحد.ومن المعلوم، أن التوتر الذي طرأ على العلاقة بين دمشق والأوروبيين، جاء على خلفية أحداث الساحل الدامية. لكن اللافت، أن التصريحات عالية النبرة في إدانة هذه الأحداث، غربياً، لم تؤدِ إلى تغيّر نوعي في الموقف الفعلي من السلطة بدمشق. حتى أن المفاوضات مع "قسد" لم تتعكّر، وهي المفاوضات التي كانت تجري برعاية أميركية حثيثة. وتم توقيع الاتفاق بين الطرفين (قسد، والحكومة في دمشق)، بعد يومٍ فقط من توقف الانتهاكات والاشتباكات بالساحل.
وفيما تقول لنا المصادر، إن دول الاتحاد الأوروبي تريد اعتبار ما جرى في الساحل حادثاً معزولاً، تطالعنا صحيفة "واشنطن بوست" بدعوة للإدارة الأميركية، برفع العقوبات عن سوريا، مؤقتاً. لأن البديل سيكون تحوّلها إلى دولة فاشلة. قبل ذلك بأيام، أخبرتنا صحيفة "ميدل إيست آي"، أن واشنطن عملت على مدار أشهر لإقناع قوات سورية الديمقراطية "قسد"، بالبحث عن سبل للتعاون مع الحكومة السورية الجديدة. وبأن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مهتم بعقد صفقات تجارية مع الحكومة السورية، تشمل الوصول إلى الموارد النفطية بشمال شرقي سوريا. كما أنه مهتم بتطوير علاقات إيجابية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي بدوره، هاتفه الأحد، ليحثّه على رفع العقوبات عن سوريا، من أجل استعادة الاستقرار فيها. في هذه الأثناء، تشير وسائل إعلام ألمانية إلى وجود محادثات بين برلين ودمشق، بغية توفير ظروف ملائمة لإعادة لاجئين سوريين من ألمانيا إلى وطنهم الأم. توفير هكذا ظروف يعني انخراط ألمانيا في دعم مشاريع التعافي المبكّر وإعادة الإعمار بسوريا. إذ لا سبيل لعودة مئات آلاف اللاجئين، إلا بهذه الطريقة.هكذا تبدو أحداث الساحل، سحابة صيف عبرت سريعاً أجواء الترحيب الإقليمي والدولي بالسلطة الجديدة في دمشق. ورغم الحذر الأوروبي، والغموض الذي يكتنف الموقف النهائي لإدارة ترامب، فإن المؤشرات ترجّح أن معظم الفاعلين يريدون لسوريا الاستقرار. وحجر الأساس لذلك، هو رفع العقوبات، وبدء عملية إعادة الإعمار، بأسرع وقت ممكن. وإلا، فإن "برميل بارود" سينفجر في سوريا، وسيتناثر شتاته على مختلف دول الإقليم، وسيطال القارة الأوروبية بأثره الكارثي.
ورغم مساعي إدارة الرئيس أحمد الشرع، الجليّة، للاستئثار بالسلطة، إلا أنها تتفاعل بمرونة وإيجابية مع مختلف الأطراف الخارجية ذات المصلحة في سوريا. وتتحمّل مسؤولياتها بصورة مقبولة، حيال السلم الأهلي والتفاعل مع اللاعبين المحليين، هذا إن استثنينا "كبوة" الساحل الأخيرة، والتي عملت السلطة على تداركها سريعاً. ومع غياب بديل قادر على لمّ شتات هذا الكيان السوري، ولجم انفلاته بدفعات جديدة ضخمة من اللاجئين، لا يزال الرهان الغربي على إدارة الشرع قائماً. وهو ما يشي بانفراجات نوعية مرتقبة على صعيد التمويل الدولي للتعافي الاقتصادي في سوريا. وقد نراهن قريباً على تعليق للعقوبات الأميركية. وحتى مع المشاغبات الإسرائيلية التي تحاول التشويش على الحوار بين اللاعبين المحليين في سوريا، يصعب استيعاب مصلحة تل أبيب في انفلات أمني واسع النطاق في سوريا، تكون إيران الرابح الرئيس منه. مما يجعل تحرشاتها الراهنة بالدولة السورية الوليدة، أشبه بابتزاز تفاوضي.ذهاب المقدمات آنفة التفصيل، إلى خواتيمها المأمولة يبقى مرهوناً بنجاح السلطة في دمشق بالحفاظ على السلم الأهلي، وعدم تكرر أحداث الساحل. في الوقت نفسه، فإن نجاح السلطة في تحقيق ذلك، على مدى زمني أبعد، مرهونٌ بتحسّن فرص العيش والعمل لعموم السوريين. وهو ما سيؤدي إلى إخماد نيران التشنج بين أطيافهم، لتتوجه طاقاتهم نحو الارتقاء بظروف حياتهم. لأن انعدام فرص العيش، سيبقى وقوداً للتوتر، وبالتالي، عدم الاستقرار. وهي التوليفة التي يخشى الغرب ومعظم الإقليم، انفجارها. لذا لا بديل عن إنعاش سوريا، اقتصادياً.