منذ أكثر من عام ونصف العام حين انتهت ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وتسلم نائبه مهام الحاكمية سعت المصارف لتطويع الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بهدف تمرير مرحلة توليه المنصب بأقل ضغوط ممكنة وهو ما نجحت به إلى حد كبير. ومذ ذاك الحين تجهد المصارف في علمية التمحيص عن أسماء تتلاءم ومنصب الحاكمية لتحضّر لها الأرضية وتدفع بها إلى الواجهة في الوقت المناسب.
اليوم وبعد خضوع الأسماء المطروحة لتولي منصب حاكم مصرف لبنان لعملية "تصفية"، حُصرت الخيارات بين إسمين اثنين هما كريم سعيد ووزير المال الأسبق جهاد أزعور. وبصرف النظر عن كفاءة الرجلين فإن المقارنة بينهما لا تجوز لأسباب عديدة على رأسها سعي المصارف لا بل "قتالها" في سبيل تعيين كريم سعيد حاكماً لمصرف لبنان. من هنا يطرح السؤال نفسه لماذا تفضّل المصارف كريم سعيد حاكماً لمصرف لبنان؟

صديق المصارف
تحفل السيرة الذاتية لكريم سعيد بالمناصب والإنجازات على المستوى المالي والمصرفي، لكنه يفتقر للتجارب الدولية والمحلية فيما لو خضع للمقارنة مع أزعور الذي يكتسب خبرة واسعة على مستوى المؤسسات الدولية كما على مستوى السياسة المحلية. فالأخير شغل منصب وزير المالية بين عامي 2005 و2008 قبل أن يتولى منصب مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي. ولا يخفى على أحد سعي لبنان الحثيث لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي وحاجته الماسة لإنجاح تلك المساعي. ولا شك أن لأزعور مكانته على المستوى الدولي انطلاقاً من خبرته في صندوق النقد.
أما كريم سعيد الذي يعرفه اللبنانيون كشقيق النائب السابق فارس سعيد، فهو إبن القطاع المصرفي وليس بعيدا ًعن فريق المصارف اللبنانية. وقد لا يعيب أي شخص قربه من المصارف اللبنانية لو كانت الأوضاع في لبنان طبيعية، لا أزمة مصرفية، لا اختلاس للودائع، ولا انهيار مالي. لكن في ظل الوضع القائم وبالنظر إلى شراسة المعركة التي تخوضها المصارف مؤخراً باتجاه نفض اليد من مسؤولية الإنهيار وبالتالي من مسؤولية سداد الودائع، يصبح وقوف أي شخصية إلى جانب المصارف أمراً مسيئاً ودافعاً للتشكيك في نوايا الإصلاح الحقيقي.
تتقاطع علاقات كريم سعيد مع المصارف في أكثر من جانب ومؤسسة، فسعيد المقرّب من المستشار المالي لرئيس الجمهورية فاروج نيركيزيان كان يشغل منصب عضو مجلس إدارة في بنك الإمارات ولبنان الذي يرأس مجلس إدارته نيركيزيان نفسه (مع الإشارة إلى أن المصرف عدّل توصيف سعيد منذ أيام وأرفق اسمه بإعلان استقالته). ويتشارك الرجلين العمل في شركة Growthgate Capital العاملة في الإمارات، فكريم سعيد مؤسس وشريك إداري في الشركة في حين يشغل نيركيزيان منصب عضو مجلس إدارة إلى جانب ماهر نجيب ميقاتي المتهّم بجرم الإثراء غير المشروع.

موقف سعيد من الودائع
وليست تلك التقاطعات أسوأ ما في سيرة سعيد فالأخير يُنظر إليه من قبل المصارف كصديق ومدافع عن مصالحها وهو "عرّاب خطة هارفارد"، فالشركة التي يشغل فيها سعيد منصب رئيس مجلس إدارة Growthgate Capital كانت قد موّلت وضع خطة لحل الأزمة الاقتصادية في لبنان عُرفت بـ"خطة هارفارد". وليس سرّاً أن الخطة تدعو لتحويل كافة الودائع إلى ديون على الدولة بشكل كامل وهذا ما يُعد حلماً بالنسبة إلى المصارف الساعية للتملّص من أي مسؤولية للأزمة.
الخطة نفسها التي يتباهى بها سعيد أمام المصارف وفي جلساته الخاصة، ترى أن الدولرة الشاملة هي الحل إلى جانب إخراج المصارف كلّياً من عملية توزيع الخسائر وهو ما يضع المودعين في مواجهة مباشرة مع الدولة. وليس هذا فحسب فخطة هارفارد تدعو إلى فرض هيركات على الودائع كما على سندات اليوروبوندز وتستثني رساميل المصارف، وهو ما ترجوه المصارف وتطمح إليه.
وبحسب معلومات "المدن" فإن سعيد دافع عن الخطة في أكثر من لقاء له مع مصرفيين لبنانيين، ويسعى مصرفيان اثنان اليوم وهما رئيسا مجلس إدارة لمصرفين من الفئة "أ" إلى التسويق لسعيد عن طريق بعض المؤسسات والمنصات الإعلامية وهو أسلوب ليس جديداً على المصارف.

التسويق دولياً
وإن كان يعتمد سعيد على تزكية شريكه نيركيزيان ودعم المصارف محلياً، فإنه فتح خطاً مباشراً مع الولايات المتحدة الأميركية للتسويق لنفسه دولياً خصوصاً أن لواشنطن اليد الطولى في اختيار اسم حاكم مصرف لبنان. وحاول سعيد "مغازلة" الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أحد مقالاته في موقع cityam الأميركي، يعرب فيه عن تفاؤله بسياسة ترامب في الشرق الأوسط المبشّرة بمزيد من الإستقرار والأمن.
وليس هذا فحسب فإبن المستشار المالي نيركيزيان، آرام نيركيزيان لعب دوراً تسويقياً لإسم كريم سعيد في الولايات المتحدة حيث يشغل منصباً رفيعاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). وليس ما يثير الريبة في سيرة وعلاقات سعيد سوى تلك التقاطعات في المصالح مع عائلة ميقاتي والمصارف وخطة هارفارد.
وإذا كان اختيار اسم حاكم مصرف لبنان بناء على تزكية من هنا ودعم من هناك فعلى الدنيا السلام، فإن اختيار الحاكم بات اليوم مسألة مصيرية للملف المصرفي وملف الودائع وأكثر من ذلك بات مصيرياً بالنسبة إلى سمعة مصرف لبنان وقدرته على استرجاع الثقة. ويتوجّب على الحاكم الجديد القيام بما عجز عنه سلفه، وهو فتح ملفات مصرف لبنان أمام القضاء واستكمال التدقيق الجنائي وكشف الملفات المشبوهة التي تورّط بها المصرف على مدار سنوات منها ملف أوبتيموم وفوري والهندسات المالية وغيرها إلى جانب الوقوف موقف الحَكَم في ملف المودعين وليس موقف الداعم للمصارف. وكيف يمكن لإبن القطاع المصرفي الحُكم بالعدل في ملف يقف فيه طرفاً قبل أن يصل إلى كرس الحاكمية؟