توجّه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى بروكسل يوم الاثنين، لحضور النسخة التاسعة من المؤتمر الذي يُعقد في العاصمة البلجيكية لدعم احتياجات السوريين في الداخل وفي بلدان اللجوء. وكانت الشكوك قد شاعت يوم السبت حول مشاركة الشيباني على خلفية تغريداتٍ له وبيانٍ لوزارة الخارجية، حيث نصّ البيان على أن قرار المشاركة غير محسوم، وأن الوزارة لن تشارك في أي مؤتمر "يروّج لأجندات خارجية على حساب سيادة سوريا ومصالحها الوطنية.. أو إذا كان مسيَّساً لخدمة روايات محددة".العنوان المقرر أصلاً للنسخة التاسعة من مؤتمر بروكسل: تلبية احتياجات الانتقال الناجح. وهو بلا شك دعمٌ أوروبي يعزز الدعم الذي ظهر منذ الساعات الأولى، عندما رحب الاتحاد الأوروبي والعديد من دوله على حدة بإسقاط الأسد، واستعجل وزراء من أوروبا الذهاب إلى دمشق للقاء الإدارة الجديدة، وهو ما فعلته أيضاً واشنطن التي تواصلت مع قائد الإدارة الجديدة، وأزالت اسمه من قائمة المطلوبين لديها. ولعل ما ظهر عليه الشيباني في بروكسل يفصح عن شيء مما لا يُقال علناً، فمن الواضح أنه غير مرتاح، وكأنه ليس الشخص نفسه الذي تحدث باسترخاء وطلاقة وأمل قبل شهر ونصف في دافوس. داخلياً، سادت قبل مئة يوم حالة تواطؤ سورية. فمع سقوط الأسد، تواطأ معظم السوريين على تمنّي النجاح للسلطة الجديدة في دمشق. والسوريون بمعظمهم فهموا ذلك على نحو إيجابي، لا إزاء السلطة ذاتها وإنما إزاء بلدهم الذي أُنهك، وأهله الذين بحاجة ماسّة إلى التعافي. البوادر الإيجابية صدرت حتى عن سوريين كان من المستحيل توقّعها منهم إزاء "هيئة تحرير الشام" الحاكمة، وبدت الأخيرة كأنها تعزز شعبيتها في مختلف الأوساط المتوجّسة ضمناً من تنظيم إسلامي، إلا أن سلوكها تغيّر في الأسابيع الأخيرة، حتى أن بعض مناصريها على السوشيال ميديا راح يلوّح بعودة الجولاني (بدل الشرع) كناية عن اعتماد الحزم بدل الليونة.
الأجواء الخارجية الإيجابية تأثّرتْ بما يحدث في الداخل السوري، فمؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد، ثم تشكيل اللجنة التي أعدّت الإعلان الدستوري، كانا مخيّبين للآمال في الداخل أولاً. التحضير للمؤتمر ثم انعقاده تميّزا باعتباطية فاقعة، تكشف عن عدم احترام الفكرة من أساسها، مع أن السوريين بحاجة حقيقية وماسّة إلى مؤتمر وطني تأسيسي يدشّن عقداً اجتماعياً جديداً وطوعياً بعد ستة عقود من حكم العسكر والمخابرات. أما الإعلان الدستوري فلمّ يلبِّ التطلعات لكونه أتى كإعلان من قوة متغلِّبة، لا كإعلان يتوّج نضالات السوريين من أجل الحرية والديموقراطية، إذا تجاوزنا تسريب مسوّدة للإعلان (عبر وسائل إعلام كبرى) منذ لحظة تشكيل لجنة الصياغة، ما أوحى بأن الأمر مدبّر واللجنة شكلية.بالطبع، أتت الأحداث الدموية في الساحل السوري لتُحدث فرقاً في الموقف الأوروبي، وفي المواقف الدولية المعبَّر عنها بإدانة شديدة من مجلس الأمن، على نحو لا تشتهيه السلطة الجديدة ومؤيدوها، ولا يشتهي عواقبه سوريون كثر. تغطية الأعين والقول إن الشمس غير موجودة لا تحجب الشمس عن أعين الآخرين، وما قرأه السوريون من أسماء ضحايا المجازر تعرفه الدوائر الغربية جيداً وربما أكثر منهم. وما شاهده السوريون من فيديوهات تنكيل، أقلّها الشتم على الهوية الطائفية، والطلب من أصحابها العواء، ليس سراً يمكن إخفاؤه.
أعداد الفيديوهات هي أكثر بكثير مما يشتهي أعداء السلطة، ويجدر بالأخيرة أن تسأل مستشاريها القانونيين عن توصيف الانتهاكات، لأن العالم يستخدم هذه اللغة، ولن يحابيها باستخدام مفردات من نوع "تجاوزات" كما فعلت هي في توصيف أعمال القتل والتنكيل. شيء من الأوصاف القانونية حضر في خطابات زعماء أحزاب غربيين، وإذا لم يحضر بعدُ في الخطابات الرسمية، فلأن الحكومات لا تريد التصرف بما تمليه عليها خطاباتها، وبما يُقال في الغرف المغلقة. لكن ما يرشح من أوساط القرار يشير إلى تراجع الحكومات الغربية عن حماستها للسلطة الجديدة، وإلى أنها ستكون حذرة في ملف الرفع النهائي للعقوبات.خطاب السلطة العلني في موضوع رفع العقوبات غير مطمئن، فهو يربط إسقاطها بسقوط الأسد الذي تسبب بها، على اعتبارها موجَّهة ضده، وهكذا لم يبقَ لها من مبرر بعد هروبه. ثمة عدم تمييز هنا في العقوبات نفسها، فبعضها شخصي ضد الأسد وشخصيات من عائلته وحاشيته، وبعضها الآخر ضد الكيانات الحكومية السورية. الأهم، وما ينبغي تذكّره جيداً، أن العقوبات (وأشدها أثراً هي الأميركية) لم توضع بهدف إسقاط الأسد، بل إن واشنطن لم تعلن يوماً أنها تريد إسقاط الأسد، وكان المطلوب منه الدخول في عملية سياسية بموجب القرارات الدولية.
وداعمو الإبقاء على العقوبات الغربية يبنون على هذا تحديداً، على القول بأن تطبيق القرارات الدولية لا يزال مستحقاً وسلاح العقوبات هو للضغط من أجل تنفيذها. وسيكون من الخفّة الظنّ بأن الغرب مستعد للتنازل كرمى لإعادة اللاجئين إلى سوريا، فإعادة مليون لاجئ من أوروبا والاضطرار إلى استقبال مليوني لاجئ بدلاً منهم ليست بالمقايضة الرابحة، إذا تغاضينا عمّا في المبدأ نفسه من إهانة للسوريين باعتبارهم سلعة في المفاوضات.إذا كانت المسألة تتعلق بسيادات الدول، فالعقوبات الغربية هي ضمن نطاق سيادة الذين فرضوها، وبموجب قوانينهم التي لم تُوضع خصيصاً لأجل سوريا. والكلام عن السيادة السورية، بهذه الطريقة الموجّهة إلى الغرب في بيان الخارجية، يقع في تناقض من حيث الحاجة الماسة إلى دعم مالي غربي ورفع للعقوبات. وهذه قرارات سيادية لتلك الدول التي يُطلب منها دعمٌ غير مشروط.
واحد من أكثر الكليشيهات شيوعاً هو أن الدول ليست جمعيات خيرية، وأنها تتصرف بموجب مصالحها وموازين القوى. ومن الجيد للسوريين جميعاً الاعتراف بأن بلدهم ضعيف ومدمّر، ويقع ضمن تقاطع حسابات دولية وإقليمية معقدة، والسلطة الجديدة ليست إطلاقاً في موقع قوة لتفرض شروطها، فـ"الشرعية الثورية" التي تحكم بموجبها لا تجعلها قوية كالشرعية الدستورية المؤجَّلة إلى ما بعد خمس سنوات على الأقل. وكل ما يُقال عن شعبيتها لدى جمهورها غير قابل للقياس، فوق أن عموميتها في تراجع لتقتصر الشعبية على أوساط من لون واحد.أيضاً، لا يستقيم خطاب السيادة المعلن مع واقع سوريا نفسها. فالسلطة لا تستطيع التواجد في منطقة الجزيرة طالما وجِد مخفر أميركي يمنع ذلك، ولا تستطيع قواتها الانتشار جنوباً تحت طائلة التصريحات الإسرائيلية واختلال ميزان القوى بالمطلق لصالح تل أبيب. الأمر لا يتعلق بقوى الخارج وحدها، فالسوريون منقسمون، والحضور الخارجي أتى أصلاً بسبب انقساماتهم. وحتى الذي يتهامس به بعض السوريين، عن عدم قدرة السلطة على ضبط الانتهاكات في الساحل، وإن قيل ذلك في سياق إيجاد أعذار لها، ينتقص من خطاب السيادة ومن رواية النصر الخارق على الأسد وداعميه.
من المستغرب، والحال كما نعلم، أن يصدر عن السلطة خطاب داخلي مكابر لا يعترف بالأخطاء والمسؤوليات، فهي بحاجة إلى أن تستمد القوة من الداخل، وأن تكون محل ثقته. وفوق مسؤولياتها، في ظرف استثنائي أساساً، سيكون من المفيد لو أنها تقدّم مثلاً في التواضع والشفافية، لعلها بذلك تخفف من غلواء الهيستريا الانتصارية التي تتملك كثر من المتحمّسين لها، والتي لا تتفق مع الضعف الحالي، وكان آخر مظاهرها دعوات البعض على السوشيال ميديا إلى اجتياح لبنان رداً على مقتل ثلاثة جنود سوريين على الحدود معه.سوريا بأمسّ الحاجة إلى سياسة داخلية وخارجية مرنة، لا مراوِغة، ولئن كان هذا مطلوباً عموماً، فالأمر هنا يتعلق مباشرة برغيف الخبز وبالدواء وبمختلف الخدمات المعيشية الضرورية، وهي بحاجة فورية إلى عشرات مليارات الدولارات للشروع في إعادة إعمار جادة. كل ذلك لن يتحقق إلا بسياسة حكيمة متواضعة تكسب ثقة الداخل، وتبني أسساً مستدامة للاستقرار، ما يشجع المستثمرين على القدوم، ويجعل أصوات المطالبين برفع نهائي للعقوبات أقوى. بخلاف ذلك، من المرجّح ألا يكون رفع العقوبات قريباً، والعالم الذي ترك سوريا بلا حل مستدام طوال السنوات الماضية لن يضيره الاستمرار في النهج نفسه طالما لم يرَ التغيير الموعود في دمشق.
مع انقضاء الحقبة الأسدية، يليق بالسوريين التخلّص نهائياً من الإرث الشعاراتي، حيث كانت المفاخرة تتضخم بالمكابرة على ضعف البلاد، وكان الاعتزاز يأتي من قوة الخصم أو العدو لا من قوة الداخل. يوماً ما قدّم القذافي كاريكاتوراً على هذه العقلية، إذ أطلق على ليبيا اسم "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"، مبرراً إضافة "العظمى" بالغارات الأميركية في نيسان/ أبريل 1986، ما يعني أن بلاده صارت عظيمة لأنها تلقّت ضربات من دولة عظمى. على الضد من عقلية الشعارات الجوفاء تلك، تحتاج سوريا أن تكون جمهورية، لا جماهيرية، وألا تكون عظمى.