عبد المنعم مصطفى

المصادفات وحدها لا تصنع تاريخاً، فهناك دائماً، الظرف، والحدث، والبطل. أما الظرف فقد تهيأ لولادة الشرق الأوسط، فيما كانت الحرب العالمية الأولى توشك على الانتهاء، وأما الحدث الذي مهّد لتلك الولادة، فهو سقوط الدولة العثمانية، وتفكيك فسيفساءها، ثم نثرها فوق خارطة سايكس-بيكو، وأما البطل الذي اغتنم الظرف، واستثمر الحدث، فقد أهلّته انتصاراته في الحرب العالمية الأولى لتقاسم منطقة ما بات يعرف بـ"الشرق الأوسط". هذا المصطلح الذي للمرة الأولى في 1902، البحار الأميركي الفريد ثاير ماهان لوصف المنطقة الواقعة بين شبه الجزيرة العربية والهند. لكنّه تمدّد لاحقاً ليشمل باكستان وإيران وافغانستان ومصر والشام.
هذا الشرق الأوسط مهبط الأديان السماوية كلها، وأكبر مستودعات النفط على الإطلاق، هو ما تدور في رحابه الآن حروب طاحنة تتنافس فيها مكوناته حول لمن تكون الغلبة في الإقليم.
التنافس الإقليمي
تقليدياً فإن التنافس الإقليمي انحصر في السابق بين الدولتين الفارسية، والعثمانية، وبتفكك الدولة العثمانية، وانهيارها عام 1924، أصبح التنافس الاقليمي مقصوراً على مصر وإيران، وتركيا "الأتاتوركية". وبقيام إسرائيل وتوسّعها على حساب جيرانها العرب، أصبحت إسرائيل رأس حربة للاستعمار الأوربي ومن بعده للولايات المتحدة، كما أصبح لها دور إقليمي آخذ في النمو، كحارس إقليمي للمصالح الغربية (الأميركية) في المنطقة.
مع التحولات التي طرأت على النظام الدولي ثنائي القطب (ما بين 1945 وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو مطلع التسعينيات، جرت تحولات مماثلة على النظام الاقليمي في الشرق الأوسط، فقد بادرت مصر إلى توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل برعاية أميركية استعادت بمقتضاه، ما تبقى تحت الاحتلال من أراضيها في شبه جزيرة سيناء، وأقامت علاقات سلام مع إسرائيل.
بعد شهور فقط من توقيع اتفاق كامب ديفيد في عام 1978 بين مصر واسرائيل برعاية الرئيس الأميركي چيمي كارتر، أطاحت ثورة في إيران بالحكم "الشاهنشاهي"، وحملت "الملالي" الى سدة الحكم، ليصبح شعار الحكم لديهم هو "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل".
أصبح إقليم الشرق الأوسط مسرحاً لتنافس إقليمي على الزعامة فيه، اطرافه هي تركيا، وإيران وإسرائيل ومصر والسعودية التي أهلّتها للدور والمكانة الاقليمية، عوائد النفط الهائلة، ومكانتها الدينية.
وبينما كانت تركيا تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، تسعى لاستعادة حضورها الاقليمي الذي تآكل بعد سقوط الخلافة العثمانية، كان التنافس الإقليمي يستعر حول هوية القوة الإقليمية الأعظم. كان لدى إيران الإرث الفارسي الذي يتطلع إلى الهيمنة على جوار إقليمي لطالما خضع لرايات فارس، وكان لدى تركيا الإرث العثماني الذي طالما خضع له جيران تركيا العرب على مدى أكثر من أربعمئة عام، وكان لدى مصر إرثها الهائل كحاضنة للعروبة وقوة للإسلام، وكذلك كانت السعودية، أما إسرائيل فهي ذراع الغرب الطويلة في الإقليم، فهي (دولة وظيفة)، تفقد شرعية وجودها لدى من أقاموها إذا تخلّت عن وظيفتها، او فشلت في القيام بها.
بعد عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدا وكأن الوظيفة التي قامت من أجلها إسرائيل قد حانت استحقاقاتها، فالولايات المتحدة التي تواجه زعامتها المطلقة للنظام الدولي ،تحديات حقيقية، باتت تتطلع الى تكريس زعامتها للنظام الدولي لمئة عام اخرى. وهو ما كشف عنه بوضوح، بيل كلينتون، (اول رئيس للولايات المتحدة من مواليد عام 1946 بعد عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الثانية)، حين رفع منتصف تسعينيات القرن الماضي شعار We should prevail(يجب أن نسود)، وقال بالحرف الواحد: "القرن المقبل يجب ان يكون أميركياً".
صعود الصين
صعود الصين، وفوز فلاديمير بوتين برئاسة روسيا، مطلع الألفية، مثلا تحدياً حقيقياً، للاستفراد الأميركي بزعامة النظام الدولي، وقد استجابت واشنطن لهذا التحدي، بالسعي إلى إحكام قبضتها على منطقة الشرق الأوسط، عبر عملية ممنهجة لإخضاع الإقليم بالقوة أو بالخوف من القوة.
في اليوم التالي لهجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، قال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو يتأبط ذراع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، "نحن ذاهبون إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط". وهو ما يجري الآن بالفعل، فـ"حماس" لم تعد قوة مؤثرة في غزة او في الضفة، و"حزب الله" لم يعد مؤثراً في لبنان أو في سوريا أو في اليمن، حتى أجواء إيران باتت مستباحة بعدما استهدفت إسرائيل أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وبات المشروع النووي الإيراني في متناول خطط إسرائيل والولايات المتحدة.
ما يجري وأنت تقرأ هذا المقال، هو استهداف أميركي مكثّف لمواقع الحوثيين في اليمن مع تأكيد من الرئيس الأميركي نفسه بأن هدفه هو القضاء كليّاً على الحوثيين في اليمن. بعدها يصبح الطريق ممهّداً لقصف مشروع إيران النووي الذي يجري بناءه بدأب منذ عصر "الشاهنشاه" الراحل محمد رضا بهلوي.
بإنجاز هذه الضربات، تصبح إسرائيل على أعتاب بوابة "القوة الإقليمية شبه المنفردة"، فلا يعوق خططها سوى تحالف مصري-سعودي بالأساس، وحضور تركي باهت مشتت الذهن بين أطماعه في الإقليم وبين مخاوفه من مقالب ترامب الأميركي وبوتين الروسي. النظام الإقليمي الجديد قيد التحميل الآن، لكنه بالطبع ليس قدراً محتوماً على عرب الإقليم، إن توافرت الإرادة، والعلم، والعمل.