زحمة لقاءات يجريها الوزراء مع مختلف الجهات الداخلية والخارجية. جهات معنيّة بشكلٍ أو بآخر، بعملية التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، مع ما تتضمّنه العملية من مهام وأدوار يؤدّيها كل طرف وفق اختصاصه وقدراته. وتلك الجهات، هي بشكل رئيسي، القطاع الخاص اللبناني الذي يعلن أنّ لديه ما يقدّمه في مسار التعافي، بالإضافة إلى الجهات الخارجية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتّحدة وأذرعها المسؤولة عن الكثير من برامج التنمية، والتي يمكنها أن تعكس صورة إيجابية تساهم باستقطاب رؤوس الأموال من الخارج.
على أنّ اللقاءات وإعلان الاستعداد للانخراط في مشاريع التعافي وإعادة الإعمار، لا تنحصر بإعلان النوايا والرغبات، بل ترتبط بتأمين أرضية صحيحة، لا تزال غير مؤهّلة حتّى الآن، نتيجة وجود ثلاث عقبات، إحداها إسرائيل.
القطاع الخاص ينتظر فرصتهعزّزت زيارات ممثّلين عن صندوق النقد والبنك الدولي إلى لبنان ولقائهم المسؤولين اللبنانيين، لا سيّما وزير المالية ياسين جابر ووزير الاقتصاد والتجارة عامر البساط ووزير الطاقة جو صدّي، تفاؤل القطاع الخاص اللبناني بإحداث تغييرات تساهم في تحريك الجمود الاقتصادي الذي ترافَقَ مع الجمود السياسي. ويأمل القطاع الخاص بأن تسفر الزيارات عن تشجيع المستثمرين الدوليين على ضخّ أموالهم في لبنان، وهذا بدوره، مع الإصلاحات التي تعتزم الوزارات القيام بها، يعزّز النمو الاقتصادي، وتالياً يعزّز نشاط القطاع الخاص.وقد عبَّرَ رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير، مطلع الشهر الجاري، عن "أمل" الهيئات بـ"تغيير الظروف لتصبح جاذبة للاستثمار ومسهّلة للأعمال". ولمزيد من التشجيع للقطاع الخاص وتسهيل أعماله، طلب شقير باسم الهيئات الاقتصادية "خفض الضرائب والرسوم، لتحفيز وجذب الإستثمارات ومحاربة الإقتصاد غير الشرعي الذي يشكّل أكبر عدوّ للإقتصاد الشرعي وللدولة". كما لفت النظر إلى أهمية "إيجاد تمويل ميَسَّر للمؤسسات الخاصة لتمكينها من النهوض". (راجع المدن)والفرصة التي ينتظرها القطاع الخاص، ستأتي مدعومة بتوجّهات الحكومة التي عبَّرَ عنها وزير الاقتصاد والتجارة عامر البساط الذي أكّد أنّ "النموّ يُقاد بالقطاع الخاص" الذي بدوره سيكون "حجر الزاوية بازدهار لبنان". (راجع المدن)التجربة غير مشجّعةورغم حقيقة الدور الكبير الذي يمكن للقطاع الخاص لعبه في تعزيز النموّ الاقتصادي، إلاّ أنّ التجربة مع هذا القطاع لم تكن دائماً إيجابية على مستوى التعامل مع الدولة ومؤسساتها وإداراتها ومع المصلحة العامة للمواطنين، وهو ما يجب لحظه لتفاديه في المستقبل القريب.فبنظر محلل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني لدراسات السوق غسان بيضون، فإنّ "التجربة مع القطاع الخاص ليست دائماً مشجّعة، فهناك فساد كبير في القطاع الخاص يضاهي الفساد في القطاع العام". وتظهر مؤشّرات هذا الفساد عبر تجارب في مشاريع مثل "الخليوي، عدّادات وقوف السيارات (بارك ميتر)، خدمات البريد (ليبان بوست)، جمع النفايات (سوكلين وغيرها)، فحص الفيول المستعمل في معامل مؤسسة كهرباء لبنان، عقود التشغيل والصيانة للمياه والكهرباء، شركات مقدّمي الخدمات المتعاقدة مع كهرباء لبنان... وغيرها من المشاريع التي أدّت إلى هدر المال العام".وفي حديث لـ"المدن"، أكّد بيضون أنّ "كل تجارب القطاع الخاص منذ العام 1992 حتى اليوم، قامت على تقديم خدمات بجودة أقل ممّا هو مطلوب". وبفعل الفساد الموجود في الدولة، انخرط القطاع الخاص في ابتزاز الدولة والمواطنين "عبر التهديد بوقف الخدمات، لتمرير مصالح خاصة خلافاً للأصول. فتارة يهدد بوقف معامل الكهرباء وتارة أخرى يهدّد بإغراق بيروت بالنفايات... وما إلى ذلك".ولضبط التجاوزات وتصحيح مسار العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، وبين الأخير ومصالح الناس "على القطاع الخاص أن يلتزم قواعد السلوك المهني والأخلاقي بالتعامل مع الدولة والمرافق العامة، وعلى السلطة تغيير منهجية عملها، وأن يتحوَّل مجلس الوزراء من هيئة ناظمة للفساد تحمي ملفّات الوزارات، إلى هيئة ناظمة للإصلاح".وتبدأ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه، بحسب بيضون، من "اعتماد الحكومة الحالية منهجية تقوم على إبلاغ كل الجهات المعنية بالرقابة والوصاية على عقود الدولة مع القطاع الخاص لتسيير المرافق العامة، بضرورة إعداد تقارير حول مدى نجاح التجارب الماضية، والعوائق والصعوبات وتكلفة المشاريع والإشكاليات المترتّبة عن التعاقد مع القطاع الخاص... وبذلك، تستفيد الحكومة من نتائج التقارير في معرفة النجاحات والإخفاقات، ووضع حلول للمعالجة المبكرة بمهلة زمنية مقبولة، وليس تحت ضغط الوقت والتهديد بوقف المرفق العام". وفي تلك الحالة "تشجّع الدولة القطاع الخاص الحميد لأخذ دوره وتقديم نموذج للنزاهة والشفافية واحترام المنافسة".
العقبات الثلاثمن جهة أخرى، لا يرى الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة أنّ إعلان الحكومة التزامها بالإصلاحات، قد يؤتي ثماره لناحية إطلاق النشاط الاقتصادي وتحقيق النموّ. ووفق ما يقوله لـ"المدن"، فإن ما يحقّق التغيير، يقبع في مكان آخر، وتحديداً في ثلاث شروط أساسية، تتحوّل إلى عقبات أمام التعافي الاقتصادي، في حال عدم تطبيقها.الشرط الأوّل هو "تثبيت وقف إطلاق النار مع العدوّ الإسرائيلي". ويشرح عجاقة أنّ "آلية تثبيت وقف إطلاق النار تعود للدولة اللبنانية، وفق ما تراه مناسباً، لكن في النتيجة، المطلوب هو ضمان الأمن الذي يشجّع على الاستثمار، فلا أحد يستثمر في بيئة غير آمنة ومعرَّضة للحرب دائماً". والشرط الثاني "يتمثّل باستقلالية القضاء، فالاستقلالية تساهم في ضمان حقوق المستثمرين، ممّا يشجّعهم على الاستثمار في لبنان، وكذلك تردّ الاستقلالية ثقة المواطنين بالدولة والقضاء". أمّا الشرط الثالث، فهو "إيجاد حلّ لمقاومة السياسيين للإصلاح، فتلك المقاومة تعرقل التعافي".واستطراداً، فإنّ هذه المقاومة تتّصل مباشرة بمصالح مشتركة مع بعض أركان القطاع الخاص الذين يُعتبَرون من مؤسّسي مسار الفساد، بالتواطؤ مع السياسيين الذي يرفضون الإصلاح، منذ بداية التسعينيات. وهؤلاء لن يتخلّوا بسهولة عن مكاسبهم، بل سيحاولون تدوير الزوايا للإبقاء على مصالحهم، ممّا يستوجب الإبقاء على قدرٍ كافٍ من الفساد لاستمرار تلك المصالح، وإلاّ تكون الحكومة الجديدة قد أعلنت بدء عهدها بحرب استنزاف طويلة الأمد.وقوة الشروط الثلاثة "قد تطغى على الاتفاق مع صندوق النقد"، بحسب عجاقة. فالأموال التي قد تأتي إثر تطبيق الشروط، تفوق بأضعاف، المليارات الثلاثة التي سيحصل عليها لبنان عبر الاتفاق مع الصندوق، إذ أنّ "البنك الدولي يقول أن في السوق اللبناني أكثر من 10 مليارات دولار، والمغتربون يحوّلون أكثر من 7 مليارات سنوياً، وعائدات الاستثمارات في لبنان هي من الأعلى إقليمياً".