"من الدهشة إلى الفن" عبارة موحية يتخذها قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية شعارًا للدورة الخامسة والأربعين للمعرض العام للفنون التشكيلية، المستمرة حتى 30 مارس/ آذار 2025، على اعتبار أن رموز التجربة البصرية المتجددة في مصر هم أولئك الفنانون الذين اعتمدوا الدهشة عنوانًا لأعمالهم وتجاربهم الطليعية على طول الخط، منفتحين على الابتكار والتجريب، وإن لم تنخلع جذورهم من تربة الأصالة والروح الشعبية والطبيعة الريفية والنكهة المحلية.ولا شك في أن التشكيلي ورسّام الكاريكاتير المصري المخضرم جورج البهجوري (1932-)، هو واحد من أبرز هؤلاء الفنانين الفاعلين النابهين، إذ اضطلع على مدار سنوات طويلة من الحفر الرصين المتعمق بتطوير عناصر هذه الخلطة السحرية في منتجه الإبداعي المتنوع الزاخم، متنقلًا برشاقة بين محطة وأخرى في سلسلة تحولاته، ومُحدثًا تأثيرات واسعة النطاق في المشهد الفني المحلي والعربي، وفي حركة الفن العالمية، التي لم تبخل عليه بلقب صار لصيقًا به، هو "بيكاسو الشرق".
يأتي التكريم الرسمي لجورج البهجوري، ضمن لائحة المكرمين في المعرض العام التي أعلنتها إدارة قطاع الفنون التشكيلية برئاسة وليد قانوش، ليثير سؤالًا مهمًّا. هذا السؤال، ليس عن أحقية البهجوري بهذا التكريم بطبيعة الحال، فهو أهلٌ له، وإنما السؤال الافتراضي عن معنى آخر للتكريم، ربما يبدو البهجوري أكثر احتياجًا إليه، وهو توفير المناخ الملائم والضمانات اللازمة له، ولغيره من الفنانين الحقيقيين، لكي يستمروا في مواصلة الإبداع والتحليق عاليًا، بدون سقف.هذا التكريم الغائب هو في حقيقة الأمر ليس إلا المتنفس الاعتيادي الضروري لحياة الفنان حياة طبيعية، ليكون عليه أن يملأها بالجمال والإشراق، ويغرس فيها أشجار الدهشة في كل مكان. وبغير هذا المتنفس، فإن البهجوري، المُكَرَّم هذا العام، هو نفسه ذلك الفنان غير المُقَدَّر، الذي انتحى جانبًا منذ سنوات، مفضّلًا الاحتجاب الاختياري والتوقف عن إبداع لوحات ورسوم كاريكاتيرية جديدة، كفعل اعتراضي احتجاجي، وذلك في ظل كساد المناخ الراهن، وتقلص هامش الحرية، إلى الدرجة التي تقتل الفن، وتطفئ انفجاراته، وتحوّله إلى ألوان باهتة ونقاط وخطوط هادئة، مقننة ومروّضة، خشية الترصد والملاحقة.
صحيح أن البهجوري، المفتش عن النبض والإيقاع والروح في كل شبر من أنحاء مصر بوصفها جماليات وأخلاقيات معًا، تقام له بانتظام، كل بضعة أشهر، معارض متوالية في قاعات بيكاسو وليوان وأوبونتو ومشربية، أحدثها في نهاية 2024 في غاليري بيكاسو بحي الزمالك في القاهرة، ولكنه آثر أن تكون معارضه الأخيرة مجرد معارض استعادية، تتضمن منتخبات منتقاة من أعماله السابقة، ومنها روائعه في الكاريكاتير، ولوحاته الزيتية حول الأمكنة الشعبية، وبورتريهات الشخصيات الشهيرة والمؤثرة في الفن والسياسة، مثل أم كلثوم وفيروز وجمال عبد الناصر.
هذه الأعمال الاستعادية المعروضة حديثًا له، هي التي أبدعها البهجوري سابقًا في أجواء أكثر انفتاحًا وأريحية وتفهّمًا لدور الفن والفنانين، خصوصًا دور الكاريكاتير في عصره الذهبي، حيث كان بحد ذاته سلطة في يد الجماهير، لا تقل أهمية وقوة عن سلطة الصحافة (السلطة الرابعة) في تعميم المعرفة، وتعميق التوعية والتنوير، وتشكيل الرأي العام وتوجيهه، وتبنّي القضايا الملحّة، وتمثيل الشعب. المثير بشأن تكريم جورج البهجوري، الذي نال أرفع الأوسمة والجوائز العالمية من فرنسا وإيطاليا وغيرهما، هو إدراك قطاع الفنون التشكيلية جيّدًا سر تميز البهجوري وعبقريته، إذ ظل لعقود أحد أكثر الوجوه تأثيرًا في المشهد البصري المصري والعالمي، عابرًا بين الرسم، والكاريكاتير، والتصوير الزيتي، ومؤسسًا لرؤية فنية لا تنحصر في تصنيف واحد، وشاغلًا موقعًا مميزًا في الصحافة، حيث "كان الكاريكاتير لديه أداة تحليل بصري، تتجاوز التعليق السريع إلى رؤية نقدية تعيد تشكيل الحدث الاجتماعي والسياسي"، بحد بيان قطاع الفنون التشكيلية. ومن ثم، فإن تكريمه هو تسليط للضوء على مسيرة صنعت ملامحها بالخط والتكوين، حيث "تتحول السخرية إلى وسيلة لاستكشاف المعنى، ويتحول الرسم إلى سجل لحياة كاملة".
هل يرعى قطاع الفنون التشكيلية ماضيًا منصرمًا، أم أنه يعمل في الأساس على تعزيز واقع فني ماثل؟! إنه يلتفت إلى تكريم البهجوري، وهو حي يُرزق، على حصاده الذي أنجزه في وقت سابق كمستكشف للهوية المصرية، فيما لا يلتفت القطاع ولا المؤسسة الرسمية عمومًا إلى أسباب اعتزال الرجل، وتنحيه تمامًا عن المشهد، مكتفيًا بأن يقول بحزن ومرارة (وهو الفنان الذي ملأ الدنيا مرحًا وسخرية): "حدث تراجع في الصحافة، وانتهى فن الكاريكاتير. لم يعد رؤساء تحرير الصحف يهتمون بالرسوم، بالرغم من أن هذا الفن مرتبط بكل شيء في حياة الناس"..
توقف البهجوري، ببساطة، لأن القدرة على العطاء الفني مقترنة باستشعار الفنان وجود الحرية، وامتلاكه الإرادة والمبادرة والاستقلالية والجسارة التعبيرية، ليتمكن من تحقيق نظريته "أنا شعبي، أحب الأرض والبسطاء". توقف البهجوري، الذي طالما نبش في طبقات الذاكرة متبحّراً في قراءة الخريطة المصرية الأصيلة بتمثلاتها الجغرافية والتاريخية والبشرية والجمالية "للإنسان شخصيته، وللوطن كذلك"، لكي لا يطارده التضييق والتكميم وربما الشائعات والاتهام بالتخوين، وقد يصل الأمر إلى التجريم والمقاضاة.لربما يتقبل البهجوري، ابن قرية بهجورة في نجع حمادي بأقصى جنوب مصر، التكريم الرسمي على مجمل أعماله السابقة، ولكنه باحتجابه الاحتجاجي يرفض أن يتحول في لوحاته ورسومه الكاريكاتيرية الراهنة من فنان مغامر مشاكس، يرسم نبض الناس وصوت الوطن، إلى مهادن مستكين منزوع الأظافر، غير قادر على التثوير والتفجير وإحداث التغيير المطلوب جماليًّا واجتماعيًّا في آن، وفق مفاهيمه الفنية التي اعتنقها ومارسها لعقود طويلة "للفرشاة الحق في أن تحس وتتنفس وتحزن وتضحك بطلاقة وحرية".