معركة تسمية حاكم مصرف لبنان الجديد، الذي سيخلف السجين رياض سلامة، ليست حصراً متعلقة بالسياسة المالية ولا بالفلسفة الاقتصادية، أو حتى بمستقبل مصرف لبنان ودوره. بل هي أولاً معركة بين وجهتين. الأولى، تنحو إلى مراجعة ما حدث خلال عقدين على الأقل، وماذا فعل الكارتيل المصرفي بالشراكة مع عصبة السلطة السياسية. وبناء على ذلك، تتحدد المسؤوليات وتتعين الإصلاحات وتُرسم سياسات جديدة للتخلص من آثار واحدة من أسوأ الأزمات المصرفية- المالية التي عرفها عالم وأشدها فساداً وفضائحية.أما الوجهة الثانية، فتصر على طمس ما اقتُرف وتبييض صفحة المرتكبين، واستئناف المؤسسات والأشخاص أنفسهم تحكّمهم بالسياسة وبالمال، لاعتبارات عدة، أولها إنكار العصبة السياسية لخطاياها واستماتتها بالدفاع عن مصالحها ونفوذها، وثانيها، نجاح الكارتيل المصرفي في اللعب على الوتر الطائفي و"مصالح" الطوائف، بوصف النظام المصرفي القائم جزءاً لا يتجزأ من ترسانة هذه الجماعة أو تلك. ليكون المسّ بها مسّاً بامتيازاتها أو بمنافعها. ولذا، فأصحاب هذه الوجهة، يقترحون بصفاقة تحميل المسؤولية وثمنها لـ"الدولة" ولمجموع اللبنانيين على مدى أجيال، من دون أي ضمانة بعدم تكرار الكارثة. بمعنى آخر، إعفاء السارقين والمرتكبين والمتواطئين، ومعاقبة المواطنين ودولتهم عبر حرمانهم من عشرات المليارات التي ستقتطع من الاستثمار في التنمية والتطوير، لدفعها كديون خيالية (هذا إذا توفرت الأموال أصلاً). والأفدح، هو الاستمرار بالنهج السابق تقريباً، بعد تجميله.تأخذ معركة تسمية الحاكم الجديد لمصرف لبنان أهمية استثنائية أيضاً، لأنها محور إرادتين لا نبالغ بوصفهما امتداداً للصراع القديم المتجدد حول النظام اللبناني، الذي أثبت أنه أصلب وأمتن من الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، ويتمنّع عن الإصلاح بشراسة استثنائية. فصحيح أن التحالف بين أركان السلطة السياسية والكارتيل الاقتصادي- المالي الاحتكاري قد يكون في الأصل التكويني للجمهورية، إلا أن النسخة الجديدة منه التي نشأت بعد الطائف راحت تتحول إلى نظام مافيوي مفضوح، "النهب" سمته الأولى، والفساد أخلاقه الوحيدة. وكان دخول رياض سلامة السجن تتويجاً علنياً لمآل هذه المافيوية التي ارتضت التضحية به مرغمة بعد ثورة شعبية وانكشاف أضخم سرقة في التاريخ الحديث.يأتي الخلاف اليوم بين رئيسي الجمهورية والحكومة حول اسم الحاكم الجديد، رغم أنهما يشكلان معاً "عهد الإصلاح"، ليتبين أن مراكز السلطة العميقة (ما من دولة عميقة في لبنان) تقع خارجهما وخلفهما. فرئيس الجمهورية محكوم من موقعه وخلفيته وثقافته السياسية بنظرة "اليمين اللبناني" الذي يقدس حرفياً المنظومة المالية والمصرفية ونادي الصفوة التي تستأثر بمصادر الثروة. فيما رئيس الحكومة وللأسباب نفسها محكوم بنظرة الوسط الليبرالي والإصلاحي، الذي لا تكن له تلك المنظومة أي ودّ.
ووراء كل هذا أيضاً، يأتي النظام السياسي والدستوري الذي يُنتج السلطة الرسمية وفق اعتبارات التوازن الطائفي، ما يُجبر رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة (مهما كانا) على التورط الدائم في معركة الصلاحيات والاصطدام المستمر فيما بينهما على أي قرار أو إجراء، مهما كانت النوايا حسنة.وراهناً، يبدو أن تلك المنظومة تستثمر ببراعة هذا العطب (الدستوري والسياسي) لتعطيل عهد الإصلاح نفسه، ومحاصرة رئيس الحكومة بالذات، تماماً كما فعلت بنجاح منذ العام 2019 إلى اليوم.
والمعضلة اليوم، أن أي "تسوية" بين الرئيسين ستكون بمثابة انتكاسة كبيرة وعامل إحباط يؤخر إعادة الثقة بمشروع الدولة الجديدة ووعودها.