حين يجتمع قلبان تقع معجزة، وحين يلتقي خوفان تحدث مجزرة، ينطبق هذا على ليلة السادس من آذار، ليلة الخوف العظيم.أحداث الساحل السوري، منذ بدايتها، وهي المستمرة بشكل أخف ومتفرق، تختصر حالة خوف فالت من عقاله. رعب عودة النظام الأسدي، ولو جزئياً، هيمن على الجميع، ترافقه رغبة في الانتقام من فصائل منفلتة. مجرمون وقطّاع طرق، أولياء دم، استغلوا انشغال الأمن العام بقتال عناصر النظام القديم، وتسللوا إلى بيوت المدنيين، وتكشفت الأيام التالية على تلك الليلة المشؤومة، عن مشاهد مروعة لأطفال ونساء مقتولين في أسرّتهم. شبان يزحفون ويطلب منهم أن "يعووا"، قبل قتلهم بدم بارد. عدّاد الموت أشار إلى 500 شاب من الأمن العام، وأكثر من 2000 من المدنيين.بدت الصور تكراراً لمشهد ألفه السوريون. أمّ تجلس قرب جثث أبنائها الثلاثة وهي تغطيهم (كما كانت تفعل أثناء طفولتهم حين ينهون واجباتهم المدرسية ويخلدون للنوم). تذكرنا بأمّ ميتة في داريا وحولها أطفالها أمام المذيعة ميشلين عازار. أمّ أخرى تحرس موت ولدَيها وحفيدها طيلة الليل، وأمهات في الشمال يستندن إلى حبال الخيمة، ناظرات إلى وجهة سيأتي منها أبناؤهم الذين قتلهم فلول الأسد وهم محمولون على الأكتاف. اصفرّت الوجوه، انكسرت الظهور وانهارت الركب، رجفت الأرض بما عليها، من اللاذقية إلى مدن وبلدات الشمال، وسال الدم.***تغرق سوريا في الصمت، وليل دمشق طويل. لا شيء سوى رصاص متقطع وعواء كلاب. يطرق جاري الباب، مع زوجته وابنتيه، وفي عينيه رجاء علّي أحميه، فأنا الآن أنتمي لفئة دم الأقوى! قبلاً، وفي 2012، احتميتُ بجاري العلويّ وحمَاني. أهدّئ نفسي مجاهدة لإخفاء خوفي: "يا لعاري وعار جاري". كيف نشأت الكراهية، ومن أين بدأت؟ من مزّق جناحي سوريا، وجعل كلاً منهما يرفرف في اتجاه حتى وقع الطير مكسوراً ليلة السادس من آذار؟ وكيف للتاريخ أن يعيد نفسه على شكل مأساة في المرتين الأولى في 2011 والثانية في 2025؟ أما قيل يومًا أنه يعود كمهزلة؟ فلماذا استُثنيت سوريا من المعادلة؟***لم أصدق نفسي حين صادفت أحد تلامذتي في مجمع تجاري. حسبته في البداية أفغانياً أو شيشانياً، لكنه أقبل وذكّرني بنفسه. قال: أنا أعرفك. وتذكّرت أني كنت معلّمته بين العامين 2004 و2008 في مدرسة "إسماعيل الريّس" بالغوطة الشرقية في حرستا. كان ممن رحلوا إلى الشمال. استعدتُ مشهد الباصات الخضراء محمّلة بمن تركوا بيوتهم مدمرة، وبعضهم ترك تحت أنقاضها أحبّة. ومن نافذة الباص، تمتد يد وتلوح رافعة شارة النصر. يومها استخفّيت بتلك الإشارة، إذ كنت قد ذهبت في اليأس مذهباً لا عودة منه. يأس راكمَته السنوات وصُور الخيم تجرفها الريح مرة، ويجرفها السيل مرّات، وأفكر في الأجساد التي تجلس تحتها، كم مرة نهضت ولا شيء يعينها سوى السماء.لا أحد يعرف الصورة التي تشكلت لديه عن ابن الساحل في تلك الخيم، صورة قاتمة، عن ذلك المارق في الساحل، العدو الكافر الذي هجّره. إذا أصبحت جريمة بضعة أفراد –تماماً كما حدث في عهد الأسد- جريمة الكل. إذن هكذا يُختزل العدو في صورة بغيضة... كافر أو مارق أو نصيري يجب هدايته...أخبرني تلميذي أنه فشل في دراسته. هنأني بالتحرير وقال إن الوقت حان لنشر رسالة إلهية. ثم، بعينين شبه ذاهلتين، تابع: "السيف بيد والقرآن بيد". بعد يومين على تلك الصدفة، شاهدت فيديو قصيراً له في سيارة للدعوة تجُول في أحد أحياء دمشق، يدعو الناس للهداية عبر مكبّر للصوت.***حين تحولَت الغوطة إلى أنقاض، وأصبحت تمثل ذلك الجزء المعتم من سوريا، انتقلتُ للتدريس في مساكن الحرس الجمهوري، وفي ثانوية العرين، التي تحولت لاحقاً إلى "راجح محمود"، قضيت سنوات عديدة. بين صورة بشار الأسد ونظرته المواربة ونظرة الأب القاسية، جرت الدروس التي لم يكن معظم التلاميذ معنيّ بها. فغالبيتهم ستنضم إلى الكلية الحربية، للقضاء على "الإرهابيين" أصحاب الصورة الواحدة التي سعت السلطة لتكريسها. فقد تكفلت الدعاية وأفلام نجدت أنزور والسينما السورية، بلورتها، وكأن كل ما حولنا كان يقول لهم: هذه صورة مَن سيقتلك إن لم تقتله.أتذكر تلميذاً قال لي إنه مستعد لقتل نفسه لأجل بشار، وآخر تباهى بأنه "سيعفّش" بيوت هؤلاء "الإرهابيين العملاء". كان ينطقها بحماسة كبيرة إلى حدّ أن نظرته لم تختلف كثيراً عن تلميذي السابق الذي أراد حمل السيف بيد والقرآن بيد. كلاهما له نظرة غائبة. لقد كانا مرتبطَين بشيء غريب عن حياتهما، وظل وجودهما قائماً على هذا الخوف... إلى أن حدث اللقاء الذي حبكت نسيجه الأقدار والسياسة.فمن تخيل يوماً أن يعود هذا الشاب من الخيمة، كما وعد يوماً أمام الكاميرات؟ وهل تخيل تلميذي الآخر أن يجد نفسه مقيد اليدين؟ ألم يدافع عن وطنه ضد "الإرهابيين"؟ لكن من هم الإرهابيون، ومن رسم هذه الصورة؟ لا شك أنه ذاك الذي اختزل الوطن في شخصه، واختزل الإرهاب في فئة من الناس.هذان تلميذاي وقد تبادلا الأدوار، أحدهما مقيد اليدين والآخر يصوب نحو رأسه. وها هما، متقابلان، بلا سابق معرفة. كل منهما يرى الآخر بعينَي الأسد. ولم يحدث سوى تبدل في المواقع. الأول هُجِّر ونُكِّل به لافتراض أنه إرهابي، والثاني قتل لافتراض أنه ينتمي لطائفة الأسد. الخوف والتيه والصورة المشوهة التي يحملها كل منهما عن الآخر هي وحدها التي يمكنها أن تفسر الكثير مما حدث في تلك الليلة التي عاشها الساحل السوري، يوم اقترب الجناحان، وشاء سوء الأقدار لكليهما أن يكون اللقاء دامياً.