انهار الائتلاف الحكومي الألماني بعد ساعات من فوز الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بولاية ثانية، مما أحدث صدمة في أوروبا.
 
بعد إقالة المستشار الألماني أولاف شولتس وزير المالية كريستيان ليندنر، أعلن الأول عن اعتزامه إجراء تصويت على طرح الثقة في يناير، ما قد يؤدي إلى انتخابات جديدة في مارس.  لكن يوم الأحد 10 نوفمبر، قال شولتس إنه سيكون مستعدا للدعوة إلى إجراء تصويت على الثقة في البرلمان قبل عيد الميلاد، في خطوة ستمهد الطريق أمام إجراء انتخابات مبكرة في أعقاب انهيار حكومته الائتلافية.
 
ويأتي هذا الموعد الأخير قبل الموعد الذي كان مقررا في 15 يناير والذي أعلنه شولتس في الأسبوع الماضي، ويأتي في أعقاب ضغوط من أجل تسريع التصويت.
 
جاء انفصال الائتلاف بسبب خلافات عميقة حول ميزانية الدولة للعام 2025، رغم أن السنوات الثلاث الماضية شهدت صراعات داخلية مستمرة بين الأحزاب. كما تفاقمت هذه الخلافات بسبب الأزمات المتتالية التي ضربت أوروبا وألمانيا.
 
في ظل انهيار الحكومة في ألمانيا، تواجه أوروبا تحديات إضافية مع احتمال زيادة الانقسام الداخلي، بحسب تقرير لـ "يورو نيوز" اطلع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عليه.
 
ونقل التقرير عن الخبيرة في السياسات الأوروبية، تو نغوين، قولها إن على الصعيد المحلي، كان تفكك الائتلاف أمراً لا مفر منه. كانت العلامات موجودة في الأيام السابقة، وكانت الخلافات والصراعات بين الشركاء الثلاثة في الائتلاف كبيرة للغاية بحيث لا يمكن التغلب عليها.
 
التوقيت مؤسف نظراً لأن الاتحاد الأوروبي وألمانيا في احتياج إلى زعامة قوية.
 
من المأمول أن يكون الوضع مؤقتا وأن يتحسن بمجرد وصول حكومة أخرى إلى السلطة.
 
الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى ضمان "وجود استجابة أوروبية مشتركة للانتخابات في الولايات المتحدة".
 
أحد أكبر المخاوف هو أن زعماء مثل فيكتور أوربان وجورجيا ميلوني قد "يدفعون برؤية للاتحاد الأوروبي ربما تكون أكثر مؤيدة لروسيا، أو أقل خضرة، أو حتى أكثر صرامة في التعامل مع الهجرة لأنهم سوف يشعرون بالتمكين من خلال نتائج الانتخابات الأميركية".
 
إن الخطر هنا هو أن أوروبا قد تنقسم أكثر: "بدون حكومة فعّالة في ألمانيا ومع وجود رئيس فرنسي وحكومة فرنسية ضعيفين للغاية، هناك ببساطة نقص في القيادة".
 
ركود اقتصادي
وتعيش ألمانيا حالياً سنتها الثانية من الركود الاقتصادي. فالنموذج الاقتصادي الألماني أصبح يعاني بسبب انتهاء عهد الغاز الروسي الرخيص وتراجع الصادرات إلى الصين التي أصبحت منافساً صناعياً متنامياً. ويعاني قطاع السيارات، الذي يُعتبر ركيزة الاقتصاد، من فقدان للوظائف وإغلاق للمصانع نتيجة تراجع الطلبات.
 
يقول الكاتب بول تايلور (وهو زميل زائر كبير في مركز السياسة الأوروبية)، في مقال بصحيفة "الغارديان" البريطانية، في هذا السياق:
 
انهارت حكومة ألمانيا الائتلافية، التي تمثل أكبر اقتصاد في أوروبا، والمعروفة بتحالف "إشارة المرور" الذي يضم الاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين، وحزب الخضر.
 
سيترك انهيار هذا التحالف المنقسم فراغاً سياسياً في ألمانيا لعدة أشهر، في وقتٍ تحتاج فيه أوروبا إلى قيادة حازمة. وبدلاً من ذلك، تواجه البلاد شهوراً من الحملات الانتخابية الداخلية، تليها مفاوضات ائتلافية طويلة، مع توقف الاستثمارات والإنفاق العام.
 
الأحزاب الشعبوية المعادية لأوروبا والمناهضة للهجرة - سواء من اليمين المتطرف أو اليسار - تشهد تصاعداً ملحوظاً، مما يجعل تشكيل حكومات مستقرة أمراً صعباً.
 
أصبحت ألمانيا تعاني من ما يُعرف بـ"المرض الهولندي" - وهو تفتت الأحزاب التقليدية الكبرى وتفكك الطيف السياسي، مما يضعف الديمقراطيات الأوروبية.
 
ويضيف: انفصل التحالف الحكومي أساساً بسبب السياسة الاقتصادية؛ فقد رفض وزير المالية كريستيان ليندنر، زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار ، طلبات الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر بتخفيف "كابح الديون" الدستوري والسماح بزيادة الإنفاق لدعم أوكرانيا وإنعاش الاقتصاد. بدلاً من ذلك، طالب بتخفيض الضرائب وتقليل الإنفاق على الرعاية الاجتماعية (رغم أن نسبة الديون العامة في ألمانيا أقل من أي دولة أخرى ضمن مجموعة السبع). مما دفع المستشار أولاف شولتز إلى إقالته لتجنب انسحاب حزبه من الحكومة.
 
كان ليندنر يبحث عن مخرج لأن حزبه يصارع للبقاء، حيث أنه يحظى بنسبة دعم أقل من عتبة الـ5 بالمئة اللازمة للاحتفاظ بمقاعده في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، كما خرج من العديد من البرلمانات الإقليمية.
 
الآن يتابع شولتز قيادة حكومة أقلية من الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر، ويخطط لطلب تصويت بالثقة في 15 يناير (قبل أن يعلن  أنه سيوافق على إجراء تصويت على الثقة قبل عيد الميلاد)، وهو تصويت سيخسره بلا شك -وفق المقال- مما يمهد الطريق لإجراء انتخابات مبكرة.
 
بينما يطالب حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض بإجراء تصويت ثقة فوري لتقديم موعد الانتخابات، لكنه لا يمتلك ما يكفي من الأصوات لانتخاب مستشار بديل.
 
ويضيف كاتب المقال:
 
تأتي الأزمة الألمانية في وقتٍ يعاني فيه شريكها الفرنسي الرئيسي من اضطرابات سياسية.
 
أصبح الرئيس إيمانويل ماكرون "بطة عرجاء" سياسياً بعد حله الفاشل للبرلمان في يونيو، مما اضطره للتعايش مع حكومة يمين الوسط المتحالفة بشكل أقلية وتخضع في بقائها لحزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان.
 
هذه كلها أنباء سيئة لمن يتوقع قيادة أوروبية حاسمة في ظل عودة ترامب للرئاسة العام المقبل، ويعد بمثابة نعمة للمعارضين لمزيد من التكامل الأوروبي، بقيادة رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان.
ويختتم مقاله بالإشارة إلى أن:
 
انهيار التحالف الألماني يمثل خيبة أمل لمن كان يأمل في تحالف تقدمي يجمع بين القوى الداعمة للسوق، وأنصار الانتقال الطاقي الأخضر، والمدافعين عن العدالة الاجتماعية.
 
تسببت الأزمات الخارجية مثل جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا وتراجع الطلب الصيني على الواردات الألمانية في انهيار الحلم الألماني.
الهوس الألماني بالعجز المالي لعب أيضاً دوراً محورياً في إفشال حكومة شولتز. فقد استمر الوسط اليساري لفترة طويلة في دعم سياسة "كبح الديون" وتجنب الاقتراض العام، مما أدى إلى نقص شديد في الاستثمار في البنية التحتية المتدهورة للبلاد.
 
سواء كان الائتلاف المحافظ القادم سيستطيع التخلص من هذا القيد المالي الخانق أم لا، يبقى ذلك غير واضح. إذا لم يتحقق هذا، فإن الاقتصاد الألماني قد يواجه خطر الموت "بصحة جيدة"، وقد يسحب أوروبا معه نحو الركود.
تداعيات اقتصادية
من برلين، يوضح الكاتب المتخصص في الشؤون الأوروبية، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن:
 
بداية كل أزمة سياسية في أي بلد تعد مؤشرًا سلبيًا على قطاع المال والأعمال، حيث تنعكس آثارها بشكل واضح على الأسواق المالية والبورصات.
شهدت بورصة فرانكفورت مؤخرًا تداعيات سلبية نتيجة الخلافات السياسية في ألمانيا، حيث أن إحدى نقاط الخلاف كانت بين المستشار شولتس ووزير ماليته المقال حول مسألة رفع كوابح الديون، وهو مطلب تدعمه بروكسل وبعض الدول الأوروبية لدعم اقتصادات كفرنسا وإيطاليا واليونان، التي تتصدر قائمة الدول الأعلى مديونية في الاتحاد الأوروبي. لكن الوزير المقال عارض ذلك، مما يعني أن ألمانيا لن تشارك حاليًا في حزم إنقاذ خاصة لأي دولة أوروبية في ظل هذه الأزمة.
 
لهذا القرار تداعيات على الدول الأوروبية وعلى الاتحاد الأوروبي ككل، بينما قد تستفيد الولايات المتحدة والصين من هذه الوضعية على المدى الطويل.
 
كما قد يؤدي استمرار ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الطاقة إلى دفع المزيد من الشركات الأوروبية للخروج من الاتحاد والانتقال إلى دول ذات تكاليف إنتاج أقل، مما يعني ارتفاع معدلات البطالة وتوجه الحكومات نحو سياسات التقشف.
 
ويشدد على أن "ما نشهده في ألمانيا من إعلان شركات عن خطط لتسريح العمال وخفض الأجور بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج هو مثال على هذه التداعيات".
 
المحرك الأساسي
خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
 
من المعروف أن ألمانيا هي المحرك الأساسي لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، ويعتبر البعض أن التحالف الألماني-الفرنسي هو المؤثر الأبرز في الاتحاد الأوروبي سياسياً واقتصادياً، إذ يُنظر إليه كقاطرة تقود الاتحاد.
 
لكن في الفترة الأخيرة، واجه الاقتصاد الألماني تحديات كبيرة بسبب الأزمات المتلاحقة، ومنها جائحة كورونا وأزمة أوكرانيا وروسيا، مما أثّر بشكل ملحوظ على الاقتصاد الألماني.
 
أعلنت عديد من الشركات الألمانية، بما في ذلك شركات تصنيع السيارات، عن إغلاق بعض مصانعها ليس فقط في ألمانيا، بل في دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا، مما أثّر على الاقتصاد الأوروبي بشكل عام.
 
بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي، مما أثر على رفاهية الشعوب.
 
ويضيف: دفع هذا التدهور الاقتصادي الناخب الأوروبي، خاصة في ألمانيا، للتوجه نحو اليمين المتطرف، كما ظهر ذلك في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي والانتخابات البرلمانية الوطنية، حيث حقق اليمين المتطرف نتائج متقدمة وأصبح هناك تخوّف من تصاعد نفوذه في ألمانيا.
 
على الصعيد السياسي الداخلي في ألمانيا، تسببت الخلافات بين الأحزاب الرئيسية في ضعف اليسار والمحافظين، مما جعل اليمين المتطرف المستفيد الوحيد من هذه الأوضاع، وفق بركات الذي يشير إلى المخاوف الحالية من أن تؤدي هذه التوجهات إلى زيادة عدد الدول الأوروبية التي يشارك فيها اليمين المتطرف في الحكم، مما قد يدفع الاتحاد الأوروبي نحو سياسات أكثر تطرفاً بعد أن كانت سياساته معتدلة على الصعيدين الداخلي والدولي.
 
ومن العوامل المؤثرة أيضاً فشل السياسات الاقتصادية في ألمانيا في تجاوز الأزمات المتراكمة، مما أدى إلى تفكك الأحزاب وتصاعد الخلافات والانقسامات السياسية، وهو ما قد يؤثر سلباً على دول الاتحاد الأوروبي.