يقول أرسطو أنّ “الخطر الأكبر على الأوطان يأتي من الداخل، عندما يجهل البعض كيف يصونون وطنهم بأفعالهم وأقوالهم، فيتحوّلون إلى أعداء دون أن يدركوا ذلك”، وجورج أورويل قال في الإطار نفسه أنّه “في زمن الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة عملاً ثوريّاً”.


وفي سياق فَهم هاتيْن المقولتيْن، غالباً ما تطالعنا جوقة من النخب والمحلّلين والمثقّفين، كما السياسيّين في لبنان والوطن العربي، بأفكار وأقوال تمسّ جوهر ومسار الصراع مع العدوّ الإسرائيلي، منها ما هو حقّ ومنها ما هو باطل، والإثنان بدون شكّ يراد بهما الباطل وليس الحقّ، فهؤلاء إمّا هم حَسنو النوايا ويُسيئون تقدير وفهم خطورة أفكارهم فيُسهمون بدعم العدوّ، أو أنّهم بقصد وبغرض التماهي مع مشروع العدوّ يتعمّدون ذلك.



وفي هذا المقال سوف نناقش معهم بعض أفكارهم، لكن قبل كلّ شيء دعونا نتّفق أنّ ما يسمّى بكيان إسرائيل قد تأسّس على مجموعة من الأسس التي تجمع بين العقائد الدينيّة التلموديّة، والأفكار الفلسفيّة القوميّة الصهيونيّة، والدوافع الأمنيّة، وأبرزها نظرية “الجدار الحديدي”؛ إلى جانب الدعم الغربي الذي جاء بدوافع إنسانيّة واستراتيجيّة، حيث تحقّق من خلال إنشاء هذا الكيان نفوذاً في المنطقة يقوّض أي فرص تَوَحّدٍ للعرب، ويَلجم أيّ محاولة لبناء نهضة حديثة، وتجمع إسرائيل بين هذه العناصر لضمان بقائها في منطقة تشهد توتّرات مستمرة من جرّاء سرطانيّة كيانها، مع اعتمادها على التفوّق العسكري والدبلوماسي لتحقيق أهدافها وحماية أمنها.


أمّا من يرى غير ذلك، فلا داعي أن نكمل معه النقاش، وليس لدينا سبيل لإقناع من يكيل حساباته بالسياسة على وقع مؤشّر فوز إسرائيل أو خسارتها.


ثمّ في المقلب الآخر، وكي لا يتنطّح أحدهم ويزايد علينا في فهم المنطقة والإقليم ودور إيران وطموحاتها الإقليميّة عبر الإمساك بقضية الصراع مع إسرائيل التي تلتقي مع مصلحة النظام لديها، فتعتبرها بمثابة بوابة لدخولها إلى العالميّة، ومن خلالها تبرز دورها على ثلاثة أصعدة: الإقليم، ثمّ العالم الإسلامي، والدور على الساحة الدوليّة، علماً أنّ إيران ترى أنّ التفريط في هذا الدور يُخسرها تقاسم النفوذ في المنطقة ويَحرمها الكثير من الامتيازات على الساحة الدوليّة والإقليميّة، لذا نحن ندرك أنّ دور إيران في الصراع لديه وظيفة بالمصالح القوميّة العليا لإيران؛ فهي من خلال رفع تلك الشعارات تحجز لنفسها موقع اللاعب الإقليمي.


أمّا لماذا إيران وليس العرب الغائبون التاركون لدورهم الطبيعي، فهذا ألم يختلج صدور الجميع ولسنا بصدد نقاشه الآن.


بناءً على ما تقدّم، نودّ تسليط الضوء على بعض الأفكار التي يتمّ تداولها ومعالجتها وفق فهمنا لطبيعة الصراع:


أوّلاً: الكلام عن أنّ اعتناق القضايا الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة العليا بات وكأنّه تهمة وضرب من التخلّف والرجعيّة، بحجّة أنّنا أصبحنا في عصر العولمة والمثاليات، وصرنا بمستوى من الوعي نَحْتَكِم فيه للعقل وللموضوعيّة، وأنّ التمسّك بالقضايا هو التخلّف بعينه، لهذا الصوت نقول إنّ نقطة بداية تحضّر الشعوب تبدأ عندما تستعدّ للتضحية في سبيل كرامتها وحرّيتها، وهذا عرف إنساني وسنّة كونيّة تدركها جميع الحضارات عبر التاريخ.


ثانياً: الكلام وجلد الذات وكأنّنا نحن من يفتعل التوتّر مع إسرائيل في هذا الإقليم، والإيحاء وكأنّ الخلل فينا نحن وليس في كيان مغتصب للأرض وقد زُرع بجسد المنطقة ليبقي فيها بؤر التوتر، وفي حال تمّ التغاضي عن وجوده، فهو لن يستكين، بل سيستكمل مشروعه وأحلامه دون الحاجة لسبب مثل أنّ المقاومة ذهبت إلى جبهة إسناد غزّة أو أنّ لبنان يشكل تهديداً لأمنه؛ فواللّه، لولا أنّ إسرائيل تدرك أنّ لبنان عصي عليها بفعل تصدّيه، لبدأت في بناء مستوطناتها انطلاقاً من قرية الغجر المحتلّة وصولاً إلى حيث يهمد طموح دولتها التلموديّة، والشواهد في الضفّة الغربيّة على نهج “قضم وهضم” الأراضي ماثل أمامنا.


ثالثاً: الكلام عن الخوف من فتنة داخليّة وحرب أهليّة، إنّه بمثابة تقديم دعوة لإسرائيل للاستمرار بالعدوان إلى حين اندلاع تلك الحرب، ومناشدة لجميع اللاعبين لفتح قنوات الدعم لتسعير نار الاقتتال.


ففي أدب الصراع مع العدوّ، حتّى لو أنّ هذا الكلام جائز، ينبغي أن لا نُظهره وأن لا نتكلّم به ونعطي إيحاءً للعدوّ أنّ هناك جبهة قابلة للاشتعال قد تريحه ويحقّق من خلالها الانتصار؛ كما ينبغي على المطبّلون لتلك الحرب، أن يروا أنّ ما حصل في لبنان هو عرس وطني، حيث وضعت الناس خلافاتها السياسيّة جانباً وانبرت للعب دورٍ وطني باحتضان البيئة الأكثر تضرّراً، وهذا كلّه بمثابة ترجمة لخيار وطني عريض، أظهر من خلال هذا الاحتضان نتائج استفتاء وطني غالب، قد أعطى مشروعيّةً وتفويضاً لحقّ التصدّي في وجه هذا العدوّ، وما فتح أبواب منازل أهل الشمال أمام الضيوف، والتهافت للتبرع بالدمّ يوم تفجير البيجر وكلّما استدعت الحاجة إلّا دليل على المشهد الوطني.


رابعاً: أمّا الكلام عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة والحديث عن السيادة، والذي يصدر بالغالب عن من يدورون في فلك الغرب وأميركا، أتحدّاهم جميعاً أن يتجرّأوا بحكم قربهم من هذا الفلك أن يطالبوا بإعطاء الجيش اللبناني أنظمة دفاع جوّي تشكّل تهديداً فعّالاً لأسطول الطيران الإسرائيلي، وأن يشترطوا إذا لم يُحَقَّق لهم ذلك، أنّهم ذاهبون إلى خيارات تسليح أخرى، مثل منظومة “إس 400” الروسيّة؛ وأجزم أنّه ممنوع عليهم التفوّه بهذا الطرح إطلاقاً، وحقيقة الأمر أنّهم يتكلّمون عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة بدافع تصفية حساباتهم السياسيّة مع خصوم الداخل وليس بدافع الغيرة الوطنيّة وحماية السيادة.


خامساً: أمّا نظرية أنّ لبنان قوّته في ضعفه، هذا هراء في مفهوم وركائز الدولة وكيفيّة تحقيق السيادة التي تعتمد على أن تكون الدولة مستقلّة سياسيّاً واقتصاديّاً، وأن تكون قادرة على الدفاع عن مصالحها الوطنيّة، أي أنّ الدول تحقّق سيادتها من خلال تلك العناصر فقط، وهذه قواعد ثابتة في علم السياسة ولسنا بحاجة إلى نظريّات تجافي السنن، أمّا الاعتقاد أنّ لبنان بلد صغير بالحجم والتعداد، فهذا العدوّ بجانبنا ليس بأكبر منّا، لذا لنفتّش عن عناصر القوّة والدعم ولنَصُن سيادتنا بعناصر القوّة، وليس بالتباكي أمام المحافل الدوليّة، لأن قانون الطبيعة حدّد لنا أنّ البقاء للأقوى.


على ضوء ما ذكرنا، نودّ القول أنّه حتّى لو كان ثمّة خلاف مع فريق لبناني على طريقة إدارة الصراع مع العدوّ، لكن في أدب الصراع يجب أن لا نختلف على وجود الصراع، وينبغي أن نستذكر دائماً أنّ الأمم التي ليس لديها قضايا تناضل من أجلها تكون كالمركب بلا شراع ولا بوصلة.




Related Posts

None found




The post قواعد في أدب الصراع مع العدوّ!.. بقلم: حمد رستم  appeared first on .