تزدهر سوق الكلمات الإنكارية اليوم بين المجموعات الأهلية اللبنانية، ويتبادل المتراشقون بالسيادية وباللبنانية وبالعروبية، مواقع الاتهام الصامت حيناً، ومواقع التنصّل المراوغ من المسؤولية، أحياناً كثيرة.
تقليب صفحات المواجع الأهلية تكرّر مراتٍ ومرات، لكنه عند كل انعطافة سياسية كبرى، يعيد "التقليب". التذكير بضرورة التدقيق في الصفحات الناشئة من إنكار، أو الطالعة من غيمة تضليل، أو الداعية إلى سراب تصديق رواية تعوزها أبجديّة الصدق المتين.
راهناً، في سياق الاختلاط السياسي اللبناني، وفي ركاب القَلْقَلَة التي تحيق بالبلاد العربية، تحضر ضرورة قراءة صفحات المجموعات الداخلية المتصارعة، من خارج أدبيات أهلها، ذلك، أنّه وبالاستناد إلى التجربة، فأن "الأهليات" تمعن في قراءة أحوالها من الثبات "التعريفي" الأصلي لتلك الأحوال، وتشرح سياساتها شرحاً متقلّباً استنسابياً، يتماشى مع ما تخترعه ومع ما تعتمد في تعاملها مع متغيّرات اليوميات السائلة التي لا تصبّ في بحر استقرار.
يتصدر القراءة اليوم، تقابل الآراء واختلافها، حول موضوع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وحول ما نَجَمَ عنها من نتائج انعكست على الداخل الوطني، وعلى العلاقة مع محيط لبنان العربي، وعلى طلب استجابة القرار اللبناني إلى ضرورة تنفيذ ما نصّت عليه القرارات الدولية، انطلاقاً من القرار 1701، واستطراداً إلى غيره من سائر القرارات.
تجدّد الخلاف بين أطراف التكوينية اللبنانية، فاستحضر الماضي بلبوسه المتعدّد الألوان، فكان ماضياً عارياً في نصٍّ متفلّتٍ من القيد "التوثيقي" عند الذهاب إلى الحدّ السياسي النشوئي، وكان حاضراً وماضياً، في نصّ منضبطٍ مموّهٍ عند الوقوف عند حد السياسي الميثاقي. ظاهر الخطاب الأهلي وباطنه، مبنيّ على الإنكار الحقيقي الواقعي، الذي لا يوصل إلى حصيلة ثابتة محدّدة، ولا يوصل، بناءً على ذلك، إلى واقع داخلي ثابت محدّد. هذا لأن الواقع الصلب سيظل موجوداً خارج النصوص الهلاميّة، التي يدير أصحابها حالة الاهتزاز الكياني اللبناني منذ حقبات تثبيت نصّ إعلانه، وحتى أيامه الحاضرة، عليه، وفي السياق غير المستقرّ داخلياً، أين يقع الإنكار السياسي الذي يُوصدُ باب وضوح المراجعات؟ وأين يقع الادعاء الأهلي الذي تتراشق به الأهليات، في سعيها المتبادل إلى انتزاع مكاسبها الداخلية؟الحروب الأهليةينكر اللبنانيون اقتتالهم الخاص، فيقولون حرب الآخرين على أرضنا. دفع تهمة التخريب إلى خارج الديار عادة لبنانية تنطوي على اختراع معادلة يندغم فيها "الجمال والدِعَةُ ومنوّعات الطبع والطبيعة وحبّ المغامرة والإبداع"، وكل ما يدعو إلى رفع "الشخصية" اللبنانية إلى مراتب السموّ والرفعة، وما سوى ذلك من مفردات المبالغة غير البليغة، التي ينكشف خواؤها ما إن يوضع القاموس الخيالي في نص الحكاية اليومية الأهلية.
الحقيقة التي تفرض واقعها على كل إنكار، هي أن كل اللبنانيين خاضوا حروبهم الخاصة، وهم من استدعوا الآخرين إلى خوضها، في الميادين الداخلية. قد يُقالُ إن الآخر قد مارس الوسوسة والوشوشة والتحريض، وإنه توسّل لتنفيذ مآربه، التمويه والتضليل والمداهنة والإغراء بالمناصب، وبوعود الرشوة والمكاسب، هذا صحيح، وهذا غير مستغرب من قِبل السياسي الأجنبي، لكن ماذا عن السياسي ابن الدار؟ ولماذا أمكن للغريب إنفاذ خططه؟ وكيف نجح في كسب مؤيدين داخليين لخطته؟ بإيجاز ومن دون استطراد، يبقى السؤال المتناسل الذي يختصر كل ذلك، وهو: ما الأرض الداخلية الحقيقية، التي أسّس عليها المتدخّل الغريب؟ وما المصالح الأهلية الحقيقية التي استجابت لمشاركة المتدخل، أو سعت لاستدعائه؟ وما الحسابات "العقلانية" التي أجراها هذا الطرف الأهلي أو ذاك عند خوضه لحربه، وعند سماحه "للبنانية" الخاصة باللجوء إلى الاستقواء بقوة خارجية، في صراعها مع الطرف الأهلي الآخر، الذي جعلته خصماً أو عدوّاً؟محطاتعطفاً على قَصْرِ رفع الغطاء التبريري عن الإنكار، لإحالته إلى واقع من الاعتراف الملموس، يكفي السجال استحضار المحطات الأساسية من عمر السيرة الاستقلالية، ومن ثمّ العودة إلى قراءتها ببصرِ غير أهلها، وببصيرة تخالف تمويه مقاصدهم، لتعودَ للحروب مضامينها الفعلية.
في السياق، وفي صيغة أسئلة سريعة لعناوين قديمة وجديدة، ماذا عن القتال الأهلي سنة 1958؟ وما الأسباب، الكامنة داخلياً، حتى انفجار الحرب الأهلية سنة 1975؟ كيف انجدلت عوامل الداخل مع عوامل الخارج؟ وماذا عن السنوات الفاصلة بين سنة 1975 و1978، وحتى الاجتياح الإسرائيلي الذي وصلت قواته إلى العاصمة بيروت؟ ماذا عن نتائجه الداخلية المباشرة؟ في مهادنته وفي مقاومته؟ وماذا عن مواقف الأهلية حيال كل ذلك؟ وبعد، ماذا عن السيرة الأهلية ما بعد تحرير لبنان من الاحتلال سنة 2000؟ وماذا عن الحروب الصغيرة والكبيرة التي ختمتها حرب الإسناد التي خاضتها المقاومة الإسلامية؟ وماذا عن تداعياتها التي تلقي بأحمالها الشديدة، على كل مفاصل الحياة اللبنانية؟النتائج العناوينلكل مرحلة من المراحل التي سبق ذكرها، نتيجة وعنوان، وكل من هذين الأخيرين له صفته الداخلية العصيّة على الإنكار، وله صفته الخارجية التي لا تدحضها بيانات النفي، ولا يمحوها "عسل" اللسان. تمحورت النتائج القديمة حول محاور داخلية، ظلّت حاضرة في كل محطات النزاع الأهلي. الأبرز من هذه المحاور الخلافية، كان محور التوازنات الداخلية، ومحور تعريف هويّة الانتساب الوطني، ومحور العلاقات مع الداخل العربي، ومحور العلاقات الدولية.
كان محور التوازنات الداخلية، وما زال، محور المحاور الآنف ذكرها، لأنه كان وما زال، تعبيراً كثيفاً عن موقع كل أهليّة طائفيّة من النظام، وعن نفوذ كل أهلية في النظام، وعن العائدات المرجوّة لكل "مجمّع" أهلي من "نعيم" النظام، أو من اجتناب قسوة وإهمال وإجحاف، ذات النظام.
"أَكَلَةُ الجبنة"!! جملة يُرجعها كثيرون إلى الرئيس فؤاد شهاب الذي حاوَلَ بناء دولة، فحورب في نهاية المطاف من قبل الحلف الثلاثي، الذي لا يتعب ورثته اليوم من حمل مطلب الدولة. كان الانحياز الذي اتهم به الرئيس "المُحَاوِل"، سبباً في مخاصمته، وكان ورثة اللاشهابي، مرشح الحلف الثلاثي، الرئيس سليمان فرنجية، صاحب العهد الرئاسي الذي رفض فتح الأبواب الدولتية أمام التعديلات التي أحدثتها تبدلات البنية المجتمعية، ففتح برفضه اللاإستيعابي أبواب الحرب الأهلية سنة 1975. ماذا كان الهاجس؟ رفض إصلاح النظام، أي رفض المسّ بتوازناته. ماذا حصل بعد ذلك، جنوح كل طرفٍ أهليّ نحو مساندٍ خارجي، فاختار العهد الحليف النظامي السوري، واختار معارضو العهد الحليف الفلسطيني. طال أمد الانحيازين – الانزياحين، إلى أن وضع الاجتياح الإسرائيلي حدّاً للمشهد العام، وعمل على توليد مشهد داخلي بديل لم تطل هيمنته. سارع خصوم المشهد الجديد إلى قتال عماده الخارجي الإسرائيلي، حتى اندحاره، وكان لقوى الداخل التي انخرطت في مقارعة الاحتلال سبق الإمساك بميزان الداخل، فقلبته في صالحها، واستمرت الإقامة في الخلل الذي أحدثته، فنابت عن النظام الأصيل في تجاوزه على البنية، بتجاوز بديل له مرجعياته الفكرية والسياسية، وله وسائله النضالية، وترسانة أسلحته المتفوقة على مجموع الخصوم اللبنانيين.حياد مزعوم وانحياز معلنعاد الوسط السياسي لترداد مقولة حياد لبنان، ثم طوّرها بعض هذا الوسط فأعلن الحياد تحييداً عن الصراعات. هذه مناسبة للقول، إن الحياد لم يكن سوى مطلب تخفّف لبناني من واجبات الانضمام إلى مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي من البوّابة الفلسطينية الخاصة، ومن الباب الصراعي العربي العام. كان الشعار الحقيقي الذي مارسه النظام اللبناني، شعار "الغُنْم" من العرب ومع العرب، والنجاة من "الغُرْم" الذي دفع كلفته "العرب" منذ نكبة 1948، في صيغة فواتير عدم استقرار داخلي، سبباً في تعذّر بناء مشتركات داخلية لبنانية راسخة.
الانحياز المعلن، جاء من جهة النضالية اللبنانية التي تبنّت شعار الكفاح المسلّح باكراً، ورفعت مطلب فتح كل الحدود العربية أمام العمل الفدائي، ثم لجأت إلى عسكرة جمهورها الذي كان مادة مشاركة قتالية مع "الفدائيين"، وكان وسيلة توازن مع قوى القمع "النظامية"، التي تركت وظيفتها للحالة الميليشياوية التي تولّت لاحقاً إدارة شؤون اللبنانيين.
عندما وضع اتفاق الطائف حدّاً لاشتباك اللبنانيين، بادر فريق من اللبنانيين إلى مراجعة تجربته، ثم قلب الصفحة، ليعيد الكتابة في دفتر وطني جديد. فريق آخر، لم يقدم على مراجعة، بل لا يزال يردد ثوابت مستقاةٍ من الحرب الأهلية، يلبسها اليوم ثوب الراهن المتصل بالغائب. تسكن هذا الفريق رغبة التفوق المبنيّة على وهم انتصار لم يحصل، ويستفيد الفريق ذاته من غياب من كان خصماً له إبّان احتدام الصراع الاجتماعي الذي ارتدى ثوب العسكرة السياسية. لكن ما لم يَدُر في خلَد الفريق "المهزوم – المنتصر"، هو واقع وراثة خصم الأمس، ذي التحالف العربي، من قبل خصم واضح الإعلان وواضح البيان، حول مرجعيته الخارجية، وحول أهدافه الداخلية، وحول تحالفاته العربية والإقليمية. الوارث المشار إليه، هو المقاومة الإسلامية، صاحبة "الحرب الدائمة" حتى التحرير، وحتى قيام الدولة "القادرة العادلة". في لبنان "القوي بقوته" وليس القوي في "ضعفه"، والحصين بتحالف "جيشه وشعبه ومقاومته". للمقاومة حساباتها الداخلية، ولها تحالفاتها التي تقع عندها موقع المساند لهذه الحسابات، وككل أهلية داخلية، تقدمت مصالح "شعب المقاومة" لدى المقاومة، على مصالح الآخرين، فكان ما يحسبه المناوئون تجاوزاً على البلد، من طبيعة الأمور لدى "بيئة المقاومة"، وعلى منابر خطبائها. لقد اجتمع إنكار المقاومة لحقيقة تداخل "داخلها مع خارجها"، مع إنكار الأهلية الأخرى لهذا التداخل. فإذا ما أتيح للخصم السياسي اتهام المقاومة بصحة لبنانيتها، استناداً إلى واقعة الانفراد بقرار السلم والحرب، من فوق رؤوس اللبنانيين، في ذات الوقت، يتاح للمقاومة اتهام خصومها بادعاء حرصهم على اللبنانية والسيادة والاستقلال بالاستناد إلى محطات سيرة النزاعات اللبنانية، وإلى دور الخصوم في إشعالها وفي إذكائها، من فوق رؤوس جميع المقيمين فوق الرقعة اللبنانية.ماذا عن الختاملا تزال البنية تحاور ذاتها، ولا تزال المراجعات الجذرية متعذرة، إذ من الصعب الطلب إلى "الحاكم" مراجعة ذاته، والحال فالطوائف الحاكمة لن تقدم على نقد ذواتها، ولا بديل من أن يأتيها النقد من خارجها، أي من خارج نظامها ذي التوازنات المتبدلة، وذي السياسات المتنقلة بين البدائل. عليه، ما الدولة؟ ما النظام؟ ما الهوية والتاريخ؟ أي انتساب عربي وأي اتصال بالخارج؟ أية تسوية طائفية مرشحة للحياة؟ هذه أسئلة منتقاة، من بين كمٍّ من الأسئلة الرائجة، لكن من يجيب من خارج الرائج؟