تستيقظ صباحاً كالمعتاد، كما كنت تستيقظ من قبل. تغسل وجهك وتنظّف أسنانك كالمعتاد، تماماً كما كنت تفعل من قبل. تُحضِّر القهوة، تجلس إلى مكتبك، تُشعل سيجارة مع رشفة القهوة الأولى، وتبدأ بالكتابة. تماماً كالمعتاد، تماماً كما كنت تفعل من قبل. تكمل نهارك: تعمل، تأكل، تشرب مزيداً من القهوة، تتوقّف عن العمل، تأكل، تأخذ قيلولة، قد تخرج مساءً للقاء بعض الأصدقاء، أو قد تشاهد فيلماً أو مسلسلاً في المنزل، تأكل، تشاهد حلقة أخرى من المسلسل، أو ربّما تقرأ، تذهب إلى السرير، تنام، تستيقظ في اليوم التالي... تماماً كالمعتاد، تماماً كما كنت تفعل من قبل. "من قبل" تعني: قبل 23 أيلول من هذا العام، أي قبل أن تتوسّع الحرب. ما زلت تفعل الأشياء نفسها التي كنت تفعلها قبل ذلك التاريخ. تقريباً. إذ ثمّة شيء تغيّر. الأفعال ما زالت هي إيّاها. لكن ثمّة شيئاً تغيّر، يصعب تحديده. شيء غير ملموس. إحساس ربّما. أو الأحرى أنّه ليس إحساساً، بل غياب إحساس. إحساسٌ كان يُرافق تلك الأفعال لكنّه اختفى. لم تلحظ اختفاءه في البداية. استمررت في تنفيذ الأفعال إيّاها كأنّ شيئاً لم يكن. استمررت في الاستيقاظ وغسل الوجه وتنظيف الأسنان وتحضير القهوة والتدخين والكتابة وتناول الطعام والقراءة ومشاهدة المسلسلات والنوم... إلخ، استمررت في ذلك كله ولم تلحظ شيئاً في البداية. ثمّ بدأْتَ تلحظ هذا التغيّر الذي يصعب تحديده. والذي لربّما هو اختفاء إحساس. شيء ما ينقص أفعال حياتك اليوميّة. كأنّها تجرّدت من شيء ما. مِن حمل كان يُثقلها. باتت خفيفة. وهي خفّة تنطوي على مفارقة. ذاك أنّها – متى انتبهْتَ إليها – تبعث على بعضٍ من البهجة وبعضٍ من الخوف في آنٍ معاً. خفّة مريبة. كأنّما أفعالك صارت بلا تبعات. وبلا أثر. كأنّها أُفرِغت من الداخل. احتفظَتْ بقشرتها وما زالت تبدو كما في السابق، لكنّ داخلها صار خاوياً. ما زلت تنفّذها كما في السابق، إلّا أنّك تنتبه بين حين وآخر إلى خفّتها، إلى انعدام وزنها، إلى انعدام تبعاتها وأثرها، فلا تعود تدري لماذا تنفّذها. وعندما تنتبه إلى ذلك، تصبح كممثّل يؤدّي دوراً، إلّا أنّ الدور ليس سوى حياتك اليوميّة السابقة. وتصبح أفعال هذه الحياة اليوميّة أشباحَ أفعال، تؤدّيها بلا اكتراث كبير، وهو تحديداً ما يبعث على بعضٍ من البهجة وبعضٍ من الخوف في آنٍ معاً.بكلمات أخرى: لقد صارت أفعال حياتك اليوميّة بلا معنى. تفتقر إلى ذاك الإحساس بالمعنى الذي كان يُشعرك بأنّ ما تفعله له تبعات وأثر في حياتك. لا أثر ولا تبعات لأفعالك الآن، فهذا الذي يحدث على مسافة أقلّ من نصف ساعة سيراً على الأقدام، يحيل تلك الأفعال خفيفة خفيفة، كأنّ لا جذور لها تربطها بالأرض، كأنّها أضحت معلّقة في الهواء. وهذا الذي يحدث يوميّاً على مسافة أقلّ من نصف ساعة سيراً على الأقدام، ليس سوى الحرب والموت.ولكي تشعر بهذه الخفّة، بانعدام المعنى هذا، عليك ألّا تكون قريباً جدّاً من الحرب والموت. عليك ألّا تكون في خطر داهم. فإذا كنت في خطر داهم، فستشعر برعب مهول، وستتولّى غريزة البقاء زمام الأمور، وستصبح كلّ أفعالك مثقلة بمعانٍ كثيرة. لكي تشعر بهذه الخفّة، عليك أن تكون على "مسافة آمنة" من الحرب والموت. مثلاً، على مسافة نصف ساعة سيراً على الأقدام. عليك أن تكون يوميّاً في جوار الموت، لكن ينبغي أيضاً أن يكون احتمال موتك ضئيلاً نسبيّاً. هذه هي "المسافة الآمنة" التي تجرّد أفعالك من كلّ معنى.لكنك تلحظ بعد ذلك أنّ الأمر لا يقتصر على أفعالك أنتَ فحسب. لست تدري ما الذي يشعر به الآخرون. لست تدري ما إذا باتوا يفتقرون إلى ذاك الإحساس بالمعنى وهم يؤدّون أفعال حيواتهم اليوميّة. لكنّك صرت ترى أنّ لا معنى لما يقومون به. صرت حينما تلتقي بهم، أو تبصرهم في الطرق، تشعر بأنّهم باتوا خفافاً، لا وزن لهم، وبأنّ أفعالهم قد نخرها الموت وأفرغها من جوهرها، فأصبحت أطياف أفعال. أطياف أفعال ما زالت تغلّفها قشورها القديمة.