لقاءان صحافيان، ملفتان ومؤثران، شاهدهما مئات الآلاف من المتابعين السوريين والعرب. الأول، لقاء تلفزيوني مع الفنانة السورية الممثلة والناشطة يارا صبري، أجراه الصحافي محمد قيس في قناة "المشهد"، والثاني لقاء مُصور أيضاً (بودكاست) أجرته الصحافية هزار الحرك مع السيدة عبير برازي، زوجة المسرحي السوري المغيب في سجون الأسد، زكي كورديللو، مع ابنه مهيار، وشقيقها عادل وصديقه اسماعيل حمودة، وتم نشره عبر معرفات صحيفة العربي الجديد.
في اللقاء الأول، تتحدث يارا صبري عن ظروف عاشتها طيلة عقد كامل من الغياب عن بلدها سوريا، وتشرح في التضاعيف، تفاصيل لا يعرفها جمهور الدراما السورية الذي عايش بداياتها، وتابعها كممثلة موهوبة في زمن ما قبل الثورة، ولا يدري بها الآخرون الذين لفتتهم تجربتها في متابعة شؤون المعتقلين السياسيين بعد العام 2011 والتي عرفت باسم "باص الحرية"، وكانت تنشر وقائعها في فايسبوك، حيث تتابع أخبار المغيبين في السجون، وتبدأها وتنهيها بعبارة لا تُنسى، تقول: "بدنا إياهم بدنا الكل"!(زكي كورديللو وابنه، وشقيق عبير وصديقه)عادة ما تكون حيوات الفنانين، معرضة لعيون المتلصصين، وقبلهم كاميرات الصحافيين. وقد حدث هذا دائماً، بغض النظر عن جنسية الفنان. غير أن ما جرى مع يارا، وغيرها من الفنانين السوريين، الذين اصطفوا إلى جانب الثائرين على نظام الأسد، تحول بعد فترة وجيزة من مغادرتهم لوطنهم، إلى تجاهل إعلامي، يعتقد كثيرون أنه متعمّد من قبل وسائل إعلامية لم تُرِد أن يعتبرها جمهور، مازال يؤيد بشار الأسد، منحازة. وكانت الحجة الظاهرة في ذلك، أن الاهتمام بالممثل، يأتي من نشاطه الفني، وليس من خلال مواقفه السياسية. لكن هذا الإهمال لم يتوقف عند هذه العتبة، بل تحول مع الوقت إلى عدم اهتمام، حتى بالإنجازات الفنية ذاتها!الصحافي محمد قيس، يتوقف عند عودة يارا للعمل في مسلسل "العميل" بعد سنوات من الغياب، ويسأل عن السبب! فتشرح بدورها، بأن الممثلين المعارضين لم يكونوا راديكاليين بالدرجة نفسها، تجاه المشاركة في الأعمال الدرامية التي تجمعهم بزملاء يخالفونهم الرأي والمواقف من نظام القمع في دمشق. فالمعارضون في النتيجة أصحاب مهنة، ويريدون أن يعيشوا من عملهم، لكن أحداً لم ينظر في الظروف التي فُرضت عليهم وجعلت هذه المشاركات القليلة، شبه متعذرة!وفي هذا، تشرح يارا ما عانته من أجل أن تحصل على جواز سفر سوري، يُمكنها من التوجه إلى مواقع التصوير، بحيث تشارك في الأعمال التي رشحت للعمل فيها. فقد أعيدت من مطارات عديدة، بسبب جواز سفر "مضروب"، خُدعت به، وقررت في النهاية أن تنهي مشكلتها، عبر طلب اللجوء إلى بلد يحترم كينونتها ويمنحها الحقوق المسروقة منها! وبعد غياب آخر أمست مواطنة كندية سورية، تملك وثيقة سفر تليق بإنسانيتها، الأمر الذي مكنها من العودة إلى العمل في الدراما.(عبير برازي في حوار مع هزار الحر)نتوقف عند هذا اللقاء، ليس فقط لأهمية المصارحة والصدق اللذين خلقتهما يارا في حضورها اللافت، بل لأن الفعل ذاته، أي الحديث أمام الكاميرا، ونقل الوقائع المخفية إلى حيز الضوء، أعاد إلى الواجهة السردية الأساسية التي خلقتها الثورة السورية، بوصفها فعالية المحرومين من حقوقهم، من أجل استعادتها. وأظهر في الوقت نفسه مقدار الأذى، الذي يصنعه النظام في حيوات السوريين، وبطريقة لا يشبهها أي شيء في أي مكان. فأن تكون سورياً محكوماً من قبل نظام الأسديين، فهذا يعني أن يُسلب منك أي حق، وأن تودي بك الإجراءات التعسفية إلى توسل الحل والنجاة، وإن كانا في أبعد مكان في الكوكب.ليست القضية الأهم هنا، محصورة في المعاناة التي تحدثت عنها يارا، بل هي في أنها تتحدث عن تفاصيل مستمرة، لم يستطع أحد أن يلجم النظام ويوقفه عن ممارستها، ولم يتخل هو عنها، رغم كل المناشدات والمطالبات التي وجهت إليه من أجل ذلك، ولهذا تستوقفنا عبارتها حين قالت: "لم أتغير"!وفي هذه الزاوية يلتقي حوار يارا، مع حوار السيدة عبير برازي، ويلتقي هاجسها المستمر في المحاولات الدؤوبة لمعرفة مصير المعتقلين والمغيبين في سجون النظام وغيره، مع المهندسة التي تنتمي إلى عائلة عرفت تجربة السجن السياسي تاريخياً، بعدما عاش بعض أفرادها الاعتقال لمُدد طويلة. وتعيش برازي منذ تاريخ 11/08/2012 هاجس معرفة مصير أحبابها الذين اختفوا بعدما داهمت بيتهم مجموعة أمنية تابعة للنظام، اقتادت زوجها وابنها وشقيقها وصديقه إلى مصير مجهول.عرف السوريون زكي كورديللو كممثل مسرحي مواظب. وقبيل الثورة ببضع سنوات، بات الجميع يصفه بأنه مُحيي فن خيال الظل في سوريا بعدما كرس له جزءاً كبيراً من جهده وتعبه. ورغم مطالبات كثيرة نادى بها زملاؤه في الوسط الفني، في الداخل والخارج، من أجل الكشف عن مصير زكي وولده مهيار خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، وابن حميه عادل وصديقه إسماعيل، إلا أن الآذان ظلت مغلقة لا تستجيب، لتتحول هذه القصة إلى واحدة من أفظع الحكايات عن كوارث صنعتها سياسة الحل القمعي الدموي، في المشهدين الفني والثقافي، وليضاف غياب أفراد أسرة عبير، إلى سجل طويل يحتوي مئات آلاف الأسماء من المختفين.النبض الذي يدمي قلب المُنصت باهتمام لما تقوله عبير برازي اللاجئة الآن في فرنسا مع ابنتها، يتلاقى مع ما حكته يارا صبري. فكل ما نسمعه هنا وهناك، يُعيدنا إلى نقطة البداية للحكاية المأساوية. إذ لم يستطع مرور الزمن أن يجعل أصحاب الحقوق والمظالم ينسونها، فهي حاضرة وراسخة، طالما أن مفاعيلها مستمرة. فالسوريون ما انفكوا يعانون، وسيبقون على الوضع ذاته، طالما أن البؤرة الأسدية ما زالت تتحكم بحيواتهم ومصائرهم.