بالتزامن مع عيد الاستقلال، افتتحت جمعية مصارف لبنان تقريرها الشهري بعنوان "المصارف اللبنانية وتحديات اللائحة الرمادية"، متناولةً أربعة محاور رئيسية خلصت إلى عدم وجود تهديد مباشر لاستمرارية عمليات القطاع المصرفي. بل على العكس، أكدت الجمعية قدرة المصارف اللبنانية على احتواء التداعيات المحتملة لهذا الإدراج، والتكيّف مع الظروف المستجدة، من خلال التأقلم والصمود والتفاعل الإيجابي.قدرة المصارف على الصمودوفي ظل مفاوضات وقف إطلاق النار التي تجري بين لبنان وإسرائيل عبر الوسيط الأمريكي تحت سقف السيادة اللبنانية، نتأمل في قدرة المصارف على الصمود بما يضمن استقلال لبنان وسيادته المالية. إذ يُعد القطاع المصرفي أحد العناصر المحورية للأزمة الاقتصادية الراهنة في البلاد. فقد أسهم انهياره في تفاقم التضخم المفرط، وانهيار العملة الوطنية، وتراجع النشاط الاقتصادي. وعلى غرار انهيار هيكل لعبة الـ(Jenga)، شكّل هذا القطاع القطعة الأخيرة التي أفضت إلى انهيار الاقتصاد بأسره، وتجسدت الأزمة في انعدام الثقة بالمؤسسات المالية، مما دفع الأفراد والشركات إلى اللجوء إلى القنوات غير الرسمية.
يبحث المواطن عن استقلاله المالي، من خلال القيود المفروضة على المودعين في الوصول إلى أموالهم، مما أدى إلى انكماش الاستهلاك والاستثمار، مما حدّ من وتيرة النشاط الاقتصادي. أما التضخم المفرط، فقد أضعف القيمة الحقيقية للودائع، مما فاقم من حدة التفاوت الاقتصادي وزاد من استياء المواطنين.
يسعى الضيف والمضيف، عقب آثار العدوان الإسرائيلي والنزوح، إلى الحفاظ على سيادة لبنان المالية. ويطرح تساؤلًا محوريًا حول قدرة المصارف اللبنانية على مواجهة تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، وكيفية ترجمة توصيات جمعية المصارف إلى استراتيجيات تأقلم وصمود فعّالة. لفهم هذا الدور، لا بد من العودة إلى بعض الوقائع المهمة التي تسلط الضوء على الممارسات المالية والمصرفية السابقة وأثرها على الوضع الحالي:
- قرارات المجلس المركزي: مثل القرار رقم 51/30/2015 بتاريخ 2 كانون الأول 2015، والقرار رقم 57/15/16 بتاريخ 1 تموز 2016، اللذان حدّدا سياسات وإجراءات متعلقة بصفقات السندات والأوراق المالية. تشكّل هذه القرارات أحد أركان الجرائم المدعى بها ضد الحاكم السابق رياض سلامة.
- بيان هيئة FINMA السويسرية: في 18 حزيران 2024، أصدرت الهيئة بيانًا يتعلق بإجراءات تنفيذية بحق HSBC Private Bank (Suisse) بسبب انتهاكات مرتبطة بعمليات مصرفية مع لبنان تجاوزت 300 مليون دولار أمريكي، مما كشف عن غياب التوثيق الكافي وغموض مشروعيتها.
- تقرير شركة كرول: تناول التقرير عمليات شركة "أوبتيموم" (Optimum Invest) المتعلقة بالسندات والصفقات الخاصة عبر المصرف المركزي والمصارف التجارية، موضحًا الأرباح المحققة على مدى سنوات.
- سندات اليوروبوند: حجم بيع سندات اليويو بوند التي تملكها المصارف اللبنانية الى المؤسسات المالية في الخارج، منذ تاريخ أعلان التوقف عن السداد في عام 2020، الى تاريخنا الحالي لنرى كيف رهنت المصارف اللبنانية مستقبل وسيادة لبنان المالي ودينه للمؤسسات المالية في الخارج من خلال عمليات البيع لسندات اليورو بوند بشكل مخالف لأحكام القانون المعتمد في متن عقد أصدارها، لاسيما فترة البيع التي سبقت الإعلان عن التوقف عن الدفع والفترة الاحقة لها.
- حجم التحويلات المالية: شهدت السنوات الأخيرة تدفقات مالية ضخمة إلى الخارج Outflows، بالإضافة الى بيع فروع المصارف في الخارج، بينما بقي الداخل معتمدًا على تعاميم عقيمة مثل التعميم 158 الذي خضع لتعديلات متكررة.
وبدون إصلاحات جذرية وشاملة تطال القطاع المصرفي والبنية الاقتصادية وتستعيد السيادة والاستقلال المالي، ستظل جهود استعادة الاستقرار الاقتصادي قاصرة وغير فعالة. فقد سجّل الناتج المحلي الإجمالي قفزة هائلة من 80,273 مليار ليرة لبنانية في عام 2019 إلى 2,090,728 مليارًا في عام 2023. ولكن هذا النمو الاسمي لا يُعبر عن توسع حقيقي في الإنتاج، بل يعكس الآثار الناجمة عن التضخم المفرط وانهيار العملة. فالتدهور الكبير في قيمة الليرة اللبنانية أدى إلى تضخيم القيم الاسمية للناتج المحلي الإجمالي، بينما ظل الاقتصاد الحقيقي في حالة ركود عميق.ارتفاع معدل التضخم
من جهة أخرى، ارتفع معدل التضخم بشكل لافت من 2.89 في المئة عام 2019 إلى مستوى صادم بلغ في المئة عام 2023، في مؤشر واضح على سوء الإدارة النقدية وفقدان الثقة في العملة الوطنية. ويكشف هذا الواقع عن غياب سياسة نقدية حقيقية، واستبدالها بتركيبات مالية غير متماسكة لا ترقى إلى مستوى السياسات النقدية الفاعلة.كما استمر العجز في الحساب الجاري، الذي سجّل -28.23% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019، ليبلغ -23.51 في المئة عام 2023. يعكس هذا العجز المستمر حاجة لبنان الماسة إلى إصلاحات اقتصادية هيكلية لمعالجة أوجه القصور المزمنة وتحقيق نمو مستدام. وفي غياب هذه الإصلاحات، سيبقى الاقتصاد عالقًا في حلقة مفرغة من عدم التوازن المالي، مما يفاقم أزمة النقد ويحدّ من قدرة البلاد على تمويل الاستيراد أو ضبط الأسعار.غياب المساءلةوفي ظل غياب المساءلة عن أعضاء الهيئات الرقابية، مثل هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة الأسواق المالية، وأعضاء المجلس المركزي الذين لم يتم التحقيق معهم أو محاسبتهم، سواء كانوا من الأعضاء الحاليين أو السابقين، بكون هذه الهيئات هي الجهات الرئيسية المسؤولة عن ضمان الامتثال للقوانين المالية ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وأمام، انعدام تطبيق القوانين المالية المرعية الاجراء بحق المصارف وأعضاء مجالس ادارتها، والتستر تحت تعاميم مختلة وتركيبات نقدية، لا ترتقي لان تكون سياسة نقدية صادرة عن مصرف لبنان، سواء لناحية مفهوم السياسة النقدية او النتائج المرجوة منها، نرى التخلف الحقيقي في الامتثال والشفافية. وهذا ما نتج عنه انعدام الثقة بين المواطنين والمؤسسات المالية وأرتفاع نسبة الاقصاء المالي، مما يجعل أي حديث عن "التكيف والصمود" مرهونًا بوجود نظام رقابي فعال ومستقل.
بالمحصلة، رغم توصيف جمعية مصارف لبنان بأن القطاع المصرفي قادر على التكيّف مع التداعيات واستمرار العمليات دون تهديد مباشر، إلا أن هذا التقييم يظل محل نظر في ظل غياب الإصلاحات البنيوية وضعف المساءلة وأنعدام السيادة المالية. ليبقى التفاعل السلبي لهذا الواقع ينعكس بشكل مباشر على المواطنين، الذين يتحملون وحدهم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية مع ما رافقها من عقوبة مالية طالت المجتمع اللبناني بأطيافه نتيجة أدراج لبنان على الائحة الرمادية، أمام أنعدام رؤية شاملة تنقل الاقتصاد من حالة الركود إلى آفاق التعافي والاستقرار والاستقلال، ضمن دولة مستقلة تتمتع بأستقلال وسيادة مالية فعلية دون أرتهان مالي للخارج، وقبل الحديث عن الارتهان السياسي وأثار الحرب الدامية والمستمرة.