على طول أوتوستراد البقاع الممتد من "تمنين"، أوّل بلدات محافظة بعلبك المحاذية لحدودها مع قضاء زحلة، وحتى ما بعد بعلبك المدينة، تصطف مؤسسات تجارية، صناعية وخدماتية، شلّت حركتها كلياً منذ توسع العدوان الإسرائيلي الى البقاع في شهر أيلول الماضي. حتى محطات البنزين والصيدليات معطلة قصراً على هذه الطريق، حيث يطل مشهد دمار خلّفه العدوان على مبان ومؤسسات سويت بالأرض، وطال عصف الصواريخ التي استهدفتها معظم جوارها والمحيط. وباستثناء فرن الخبز على الأوتوستراد، يصعب العثور ولو على دكان صغير لابتياع حاجيات أساسية، الى أن نصل الى مدخل بلدة دورس. البلدة التي لا تزال تلملم جراح عناصر الدفاع المدني الذين استشهدوا في مركزهم، لم تشهد عودة أبنائها بعد، كما هو حال بعلبك وسائر قرى قضائها. ومنيت بالأمس باستشهاد عدد من أبنائها جراء الغارة الإسرائيلية التي استهدفت منزل علي ركان علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي، في البلدة وادت إلى استشهاده مع عدد من العاملين معه في المستشفى.تعطّل حرك السوقلم تطُل الهدنة غير المعلنة التي رافقت زيارة المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين الى لبنان في مطلع الأسبوع، وما أن غادر الأراضي اللبنانية حتى إستؤنف الإعتداء على بعلبك، فتمدّدت حالة الحذر الأمنية وتداعياتها الاقتصادية.
تخبرنا منى يونس وهي صاحبة سوبرماركت في محلة تقاطع بعلبك - دورس أنها وعائلتها من بين أقلية لازمت البلدة خلال العدوان، وبالتالي من الطبيعي أن تتراجع حركة متجرها بنسبة 80 في المئة كما تقدرها. "حتى أحوال الناس تراجعت" كما تقول، و"الناس باتت تقيم حسابا لكل شيء".
ومع ذلك تلاحظ يونس أن زبائن جدد يقصدونها من الجوار بحثاً عن احتياجات لم تعد تتوفر بسهولة للمؤسسات لأن وكلاء الشركات ومندوبيها يتجنبون الانتقال الى بعلبك، ويصرّون على تسليم منتجات مؤسساتهم في مناطق آمنة.
في جولة ميدانية في بعلبك أثناء هدنة قصيرة، بدا أنها غير كافية لاستعادة حركتها الطبيعية. ومع ذلك شهدت المدينة تردّد بعض من لا يزالون يقيمون خارجها، أقله لتفقد منازلهم وإحضار بعض حاجياتهم منها.
ومع ذلك لفتتنا "جهاد" بإصرارها على إبقاء مؤسستها لبيع الأشغال الحرفية مفتوحة على مصراعيها، متحدّية الدمار الذي لف منطقة ساحة الشاعر خليل مطران ومحيط "منشية" بعلبك الملاصقة لقلعتها الأثرية التي استهدفت مباشرة.
لا تفارق الابتسامة وجه "جهاد" وهي تخبرنا عن زبونة اتصلت بها من أوستراليا وأوصتها على عباءات حضرت باكراً لتسلمها. هي "بعلبكية وشايفة بحالها" كما حاكت على إحدى الحقائب المعروضة في مؤسستها، وثقتها بعنادها الذي يشبه عناد اللبنانيين على الصمود على رغم كل تجاربهم المؤلمة كما تقول. ولكنها أسفت لواقع المدينة التي خسرت موسماً سياحياً كاملاً هذه السنة، معتبرة أن "السياسة متآمرة على لبنان وشعبه الذي على رغم كل شيء يرفض أن يموت".
تلقّت جهاد كما تؤكد طلبات أخرى على عباءاتها، ولكن إيصالها عبر موزعي الـ"ديليفيري" أصبح مكلفاً في ظل الظرف الأمني، ولذلك تقول أنها ستحمل منتجاتها لتوصلها الى زبائنها بنفسها، علّها تكسب بذلك مزيد من الطلبات، الى جانب ثقة هؤلاء بها.
مثل جهاد فتحت أقلية من أصحاب المؤسسات أبوابها، سواء في ساحة "المطران" أو في وسط سوق بعلبك التجاري، ولكن من دون طموحات كبيرة ببيع منتجاتها التي تعتبر كماليات. هم فقط ضاقوا ذرعاً من "ملازمة البيت" كما قال أحدهم.إغلاق وشللتخلينا عن استطلاع واقع منطقة راس العين السياحية بعد إطلالة سريعة عليها. فالمنطقة هناك لم تعد تشبه حالها، ومقاهي كبرى فيها أُزيلت من الوجود جراء غارات استهدفتها مباشرة. إلا أن أسواق المدينة المتخصصة والشعبية لا تبدو أقل تعثراً منها. ففي سوق الذهب المجاور لمبنى المحافظة الذي تحول الى بلدية، وجدنا مؤسسة واحدة مفتوحة. صاحب المؤسسة لم يتردد بإخبارنا أن وجهة الناس هي بيع الذهب وليس شراءه. ولكن لا داعي للمبالغة إذ لا تهافت على بيع الذهب كما قد يخيل للبعض، وحركة بعض المؤسسات تقترن في معظم الأحيان في كونها من بين بضعة مؤسسات فتحت أبوابها حتى الآن.
وسط إقفال فروع المصارف في المدينة وتحويل فرع "القرض الحسن" الى ركام، توقفنا عند حركة ملحوظة لمؤسسة وكيلة لإحدى شركات تحويل الأموال في سوق الذهب أيضاً، إلا أن أحد الزبائن أخبرنا أن معظم الموجودين بالداخل ينتظرون تحويلات من الإغتراب وهي على ما يبدو شكلت عاملاً أساسياً من عوامل صمود أهالي المدينة.
أحد هؤلاء جزار التقينا به في سوق الجزارين. أخبرنا أن شقيقه يرسل له شهرياً 500 يورو ليساعد بها الفقراء، فيشتري هو كميات اللحم التي يبيعها للميسورين ويقدمها مجاناً للمتعثرين.
لم تتأثر في المقابل قدرة اللحامين أو محلات الخضار على تأمين البضائع لمؤسساتهم فالبضائع لا تزال تصل من سوريا ومن باقي نواحي لبنان كما يقول أحدهم: "ولكن طلب الناس وخصوصاً على اللحوم تراجع، والسبب أن أهالي المدينة بمعظمهم خارجها، وتحديداً الميسورين منهم الذين يعتمد عليهم سوق اللحامين بشكل أساسي."
وانعكس تراجع الطلب على اللحوم على الأفران، وخصوصاً التي تحضر الصفيحة البعلبكية كما يؤكد أحدهم، فبدلاً من أن يُحضر هؤلاء الى بيوتهم كيلو "صفيحة"، يشترون بثمنها كمية لحم قد تكفي لإطعام عائلة لأسبوع.هجرة المدينة على رغم حماسة صاحب الفرن لخدمة بضعة زبائن التقى بهم لأول مرة منذ أول إنذار إسرائيلي وجه باستهداف بعلبك، لم يكن متفائلاً باستعادة حركة السوق الاعتيادية قبل الوقف الكلي للعدوان. وبرأيه أنه "اذا لم يعد أهل المدينة لا أمل باستعادة الحركة". متحدثاً عما تسبب به العدوان الإسرائيلي، وحتى بعد توقفه خلال الأسبوع الماضي، من تحديد لساعات عمل أسواق بعلبك، التي صارت تفتح أبوابها من التاسعة صباحاً حتى الواحدة من بعد الظهر. ومن بعدها كما قال أحدهم "سيهرول الناس الى بيوتهم، خصوصاً أن معظم الاعتداءات تركزت حتى الآن في فترة بعد الظهر."
ويشكو الجميع في هذا السوق من أن البرنامج المحدد على مواقيت الغارات حد من إنتاجية المهن الحرة تحديداً، فصعب حياة من لازموا المدينة وقضائها، لينعكس أيضاً على عمالة المؤسسات وموظفيها الذي تحولوا الى عاطلين عن العمل.
الحركة المحدودة في سوق المأكولات الشعبية تترافق مع وجوم على الوجوه. يخبرنا أحدهم أننا لو تأخرنا بالقدوم قليلاً، قد لا نلتقي على الطرقات سوى بالكلاب الشاردة. على العموم بدت الأخيرة مرتاحة أمام أبواب المحلات الموصدة.
ومع ذلك أخبرنا أحد أبناء المدينة الذي دعانا الى جلسة حول طبق صفيحة بعلبكية في وسط السوق، أن بعض العادات في المدينة تتحدى حتى الغارات. وبرأيه أن الناس تعتاد على كل شيء، متوقعاً أن يعود من غادروا المدينة "ولو تحت النيران" وخصوصاً مع تبدل الأحوال المناخية، "لأن الانسان لا يشعر بالدفء والشبع الا في بيته." كما قال.