تقول الحكاية إنّ حليم الروميّ "اكتشفها" للمرّة الثانية، بعدما كان محمّد فليفل قد اكتشفها للمرّة الأولى في معرض تفتيشه عن أصوات لجوقة تؤدّي الأناشيد الوطنيّة. حليم الروميّ قامة موسيقيّة تستحقّ الدراسة: لبنانيّ من جنوب الجنوب، جمع في شخصيّته إلى معالم الإرث البيزنطيّ، التي يدلّ عليه اسمه، نفحات موسيقيّةً من بحر حيفا، حيث استهلّ مشواره الفنّيّ، وبصمات واضحةً من المدرسة المصريّة. إذ أحرز علومه العليا في معهد الملك فؤاد الأوّل للموسيقى العربيّة في القاهرة. وتقول الحكاية إنّ الروميّ هذا، الذي أعاد اكتشافها لؤلؤةً في محارة، لفت عاصي الرحبانيّ إلى صوتها الخرافيّ، وإنّه خيّرها بين اسمين: شهرزاد وفيروز، فاختارت الاسم الثاني. منذ تلك اللحظة السحريّة، صار للوجه الذي سيغيّر وجه الموسيقى في هذا الشرق اسم وبيت وعنوان. وصارت الأسطورة اسمها فيروز. في ما بعد، وبعد مرور سنين طوال على هذه الأحداث التي تغور تفاصيلها في الصمت، وتختلط بمزيج غريب من الخيال والخرافة، ستغنّي السيّدة، التي بلغت التسعين، من شعر الأخوين رحبانيّ وألحانهما: "أنا شهرزاد القصيدة / وصوتي غناء الجراح/ أنا كلّ يوم جديدة/أهاجر عند الصباح". هكذا ستلقي التحيّة على حكاية تتصدّرها امرأة مثلها هي مزيج من تاريخ وأسطورة، حكاية لعلّها أغرب عمل سرديّ في العالم، تضافرت على إنتاجه ثلاث من أعرق حضارات الدنيا: الهنديّة والفارسيّة والعربيّة. لكنّ المرأة التي صارت اليوم في التسعين لم تختر آنذاك اسم شهرزاد، بل آثرت أن تتسمّى فيروز. أليس من الغريب أنّه لم يخطر على بال أحد أن يسألها لماذا فضّلت الاسم الثاني؟ لماذا يا ترى؟ هل لأنّه أقصر؟ هل لأنّها شعرت بأنّه يختزن مقداراً من الموسيقى يوازي عدد الملائكة في حنجرتها السندسيّة؟ هل لأنّها كانت تؤثر الحجارة الكريمة على الحكايات التي كانت تسردها الصبيّة الفارسيّة على مسامع الملك المتغطرس كي تحوّله من قاتل إلى عاشق؟
الثابت في الموضوع أنّ الفيروز حجر كريم أتى إلى أوروبّا من بلاد فارس أيضاً. لكنّ سكّان القارّة القديمة أطلقوا عليه لفظ "توركواز"، وهو صفة فرنسيّة عتيقة تدلّ على ما هو تركيّ، وذلك لأنّ الفيروز، الذي شُغفوا به وعمدوا إلى استخدامه في صناعة الحليّ، كان يرد إليهم من طريق السلطنة العثمانيّة. لا جديد تحت الشمس. نحن، هنا، أمام خطأ جغرافيّ يشبه مئات الأخطاء التي تعجّ بها قصص الحضارة. المهمّ في الموضوع أنّ الفرس والأتراك يجتمعون اليوم على عشق فيروز اللبنانيّة العربيّة، التي اقتبسوا بعض أغانيها، مثل "البنت الشلبيّة"، وترجموها إلى لغاتهم.
بيد أنّ الفيروز له صفة أخرى لعلّها هي التي خبلت الأوروبيّين وجعلت عقلهم يطيش. إنّه هذا الالتباس الغرائبيّ بين لونين: الأزرق والأخضر. فأنت إذا أمعنت النظر في الفيروز محاولاً تحديد لونه، شعرت بأنّه أخضر على قدر تيقّنك أنّه أزرق. وإذا قرّرت أنّ هذا الحجر أقرب إلى الخضرة، أحسست بثقل ما يختزنه من زرقة. هل حدس حليم الروميّ بهذا كلّه حين عرض على فيروز أن يصبح اسمها فيروز، وحين أكّد للعاصي المتردّد أنّ صوتها لا يلائم الشجن الشرقيّ فحسب، بل يوائم أيضاً نمط الأغاني الراقصة ذات الطابع الغربيّ، الذي كان الرحبانيّ مهتمّاً به آنذاك؟لعلّ هذه الأسئلة ستظلّ أسئلةً ما دامت الوقائع تستظلّ بالخرافة والتأريخ يغرورق بالخيال. لكنّ الأكيد أنّ الصوت الفيروزيّ، الذي قيل فيه الكثير، هو أشبه بالفيروز، هذا الحجر الكريم الذي يكون أخضر حين تحسبه أزرق ويضحي أزرق حين تخاله أخضر. فصوت السيّدة التسعينيّة يجمع المختلفات ويصهرها في بوتقة واحدة: الشرق والغرب، السرّ والبوح، الماء والخمر، العذوبة والشدّة، تكسّر الضوء وتيهان الريح، حفيف الأوراق وأنين الناي، الصلاة والثورة، الكلام حين يصبح الصمت خيانةً والصمت حين يمسي الكلام نافلاً. لكن، لئن قرّرت الآنسة نهاد وديع حدّاد، مع مطلع الخمسينات، أن يصير اسمها فيروز، لا شهرزاد، إلّا أنّ صوتها، الذي يتلوّن كالفيروز، هو أيضاً مثل شهرزاد. فهو، بكلمات الأخوين رحبانيّ، قصيدة تولد جديدةً كلّ يوم، ولا نريد له أن يهاجر في الصباح إلّا لكوننا ندرك أنّه سيولد لنا من جديد شفيفاً مثل الفجر.سلام إلى الفيروز والشهرزاد، ورحم الله الكبير حليم الروميّ…