يتحدّث الدبلوماسي المخضرم، مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى والسفير الأميركي الأسبق إلى بيروت، ديفيد هيل، في كتابه "الديبلوماسية الاميركية تجاه لبنان" American Diplomacy toward Lebanon عن حقبات ستة في علاقة واشنطن بلبنان، تبدأ من الاهتمام مع الاستقلال وصولاً إلى الإهمال مع انتفاضة العام 2019. وتتميز الحقبات الستة بإهتمام كثيف لوقت محدّد، ثم بإدارة الظهر أو تسليم الملف للاعب إقليمي اقل انشغالًا بملفات سياسية مستعصية. كي نستطيع استقراء المرحلة المقبلة بعد انتهاء حرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على لبنان، لا بدّ من التوقّف عند محطات أساسية من السياسة الأميركية في لبنان، بدءاً من الاهتمام وصولاً إلى التخلّي.
في العام 1958، أرسل الرئيس الأميركي آنذاك، دوايت أيزنهاور، 14 ألف جندي بحرية (مارينز) لدعم السلطة الموالية للغرب، والراغبة بالانضواء إلى حلف بغداد، بقيادة الرئيس كميل شمعون في مواجهة المشروع القومي بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وقد انتهت الواقعة بحصول تفاهم أميركي-مصري شمل انتخاب قائد الجيش، فؤاد شهاب، رئيساً توافقياً بعد ثلاثة أشهر من وصول المارينز. وبعد ذلك، فقدت الولايات المتحدة اهتمامها ببيروت.
وبين العاميْن 1976 حتى 1978، تقاطعت مصالح كلّ من إسرائيل وسوريا ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي توسع نفوذها مع الحركة الوطنية اللبنانية، ما دفع واشنطن إلى إيفاد فيليب حبيب مبعوثاً خاصاً إلى بيروت في محاولة لاحتواء نفوذ المنظمة وحلفائها، غير أنّ وصول الرئيس جيمي كارتر إلى البيت الأبيض أعاد الإهمال إلى الملف. وبحسب ما أورده هيل في كتابه، فإنّ كارتر قد قال للرئيس المصري أنور السادات: "إن الاهتمام الأميركي بلبنان كان يُثار في المقام الأول في لحظات الأزمة (لذا) لم نبذل جهداً متضافراً لإيجاد حل دائم للمأساة اللبنانية المستمرة".
خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان بين العاميْن 1982 و1984، عاد اهتمام الولايات المتحدة بلبنان، حيث أرسلت مع فرنسا وسواهما، قوات حفظ سلام إلى بيروت لضمان انسحاب كلِّ من منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل من العاصمة. إلاّ أنّ تفجير مقر المارينز في العام 1983 ومقتل 241 عسكرياً أميركياً أدى إلى انسحاب الأميركيين والفرنسيين، وهكذا فقدت واشنطن اهتمامها مجدداً.وفي مرحلة عقد اتفاق الطائف، أبدت واشنطن اهتماماً بإقرار الاتفاق، وبعد اجتياح العراق الكويت في العام 1990، لزَّمت قرار لبنان إلى سوريا حتى صدور القرار 1559 الذي أدّى إلى خروج القوات السورية من لبنان في نيسان العام 2005، بعد اغتيال مزلزل للرئيس رفيق الحريري وثلّة من رجال السياسة والصحافة والفكر.
وبعد سنة، اندلعت حرب تموز 2006 وصدر القرار 1701 الذي أنهاها، فتكرّس نفوذ حزب الله ومن خلفه إيران كراعي أساسي في لبنان. إلاّ أنّ تمدّد نفوذ الحزب ليصبح لاعباً إقليمياً من بغداد إلى صنعاء ودمشق، دفع واشنطن إلى التدخل مجدّداً من أجل حدّ نفوذه عبر تحرّكات سياسية وشعبية معارضة، أوصلت إلى انتخابات نيابية عام 2022 كرست التفويض لحزب الله. وفي هذه المرحلة، كاد الاميركيون يسيرون بخيارات حزب الله في الرئاسة والحكومة.
ولعل انسحاب العرب من لبنان منذ عقد ونيف ظهَّرَ طبيعة المواجهة المباشرة بين والولايات المتحدة وحزب الله ومن خلفه إيران، فاستحال باقي اللبنانيين أضراراً جانبية لمعركة أطاحت بأسس لبنان الاجتماعية والاقتصادية وضربت كلّ التوازنات الداخلية.
وفي العام 2023، شكّل 7 تشرين الأول تاريخاً فصلاً في المنطقة كلها، وسيظهر للعالم كله سنة بعد أخرى كمّ التأثيرات السلبية على اسرائيل واستقرارها والتبدلات التي ستحصل في بنيّانها. ولعلّ انخراط حزب الله في حرب إسناد غزة دفع إسرائيل لتنفيذ خطة عملت عليها لسنوات وأدّت إلى إضعافه بشكل كبير عسكرياً وسياسياً عبر اغتيال أمينه العام، السيد حسن نصرالله، وقيادات الصف الأوّل والثاني والثالث. وهذا ما دفع واشنطن منذ بداية حرب تشرين الأول 2023 عبر موفدها آموس هوكشتاين إلى الانخراط عن جديد في المواضيع اللبنانية خصوصاً بعد نجاحه في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة في تشرين الأول 2022.
وإذا كانت إدارة الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، على مقربة من وداع المسرح الدولي، فإدارة الرئيس الجمهوري المنتخب، دونالد ترامب، تعد العدّة للإمساك بزمام الأمور. ولبنان بالنسبة إلى ترامب مجرّد تفصيل صغير جدًا. والرجل، بحسب تعبير الصحافي الأميركي توماس فريدمان، "ميال إلى إبرام صفقات كبيرة يمكن أن تكون لها تأثيرات عميقة في صياغة التاريخ". بحسب كلّ من التقى هوكشتاين في بيروت خلال زيارته الأخيرة، تقصّد الرجل المفوّض من بايدن القول إنّه نال بركة ترامب. فإذا أتم هوكشتاين صفقة وقف النار يصبح من الأكثر ترجيحاً أن تأتي إدارة ترامب وهي فاقدة الاهتمام بمتابعة الساحة اللبنانية الشديدة التعقيد، لا سيّما أنّ صفقة وقف إطلاق النار تتضمن حكماً انتخاب رئيس جمهورية متّفق عليه. وتظهر التجربة أنّ سياسة الولايات المتحدة غير ثابتة ولا مستدامة، ما يفتح الأبواب أمام أخصامها للعمل على إطالة أمد حضورهم وتحسين ظروف المواجهة لمصلحتهم.
غير أنّ الفارق أنّ الأميركيين لا يتأثرون بأزمات لبنان سواء أكانت سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية، أو اجتماعية. بل إنّ كثيرين من صنّاع السياسة الخارجية الأميركية لا يعتبرون أنّ ازدهار لبنان واستقراره يصبّ في مصلحة واشنطن في المنطقة، ويعتقدون أنّ وجود لبنان قوي وحليف للولايات المتحدة مسألة ايجابية لكن العمل على تحقيق ذلك ليس من مسؤولية واشنطن.
وفي هذا السياق، يأتي السؤال الأهم: إذا فقد الأميركيون اهتمامهم بلبنان مجدداً، من سيبدي اهتماماً غير طهران؟ وهل يبقى العرب منكفئين؟ من يملأ الفراغ ويعيد التوازن؟ الديناميكة الداخلية قادرة بلا شك على إحداث تغييرات، شرط توفّر عامل دافع، أو مساعد أو ميسر، وهو غير واضح إلى الآن.
يقول ديفيد هيل في كتابه إنّ السياسات الأميركية تاريخياً حول لبنان كانت تتخطى لبنان كدولة، أي أنّها كانت تشمل نطاقاً إقليمياً يرتكز إلى حضور إسرائيل وأولويات الولايات المتحدة في المنطقة (حماية إسرائيل، التصدي لنفوذ الاتحاد السوفياتي، ضرب نفوذ ياسر عرفات، تحجيم حافظ الأسد، وإضعاف إيران). ونتيجة لهذه السياسات، كان الشعب اللبناني برمته يتعرّض لعقاب جماعي. وبعد عقود من الاهتمام والانسحاب الأميركيَيْن، قد يكون الأوان قد آن لصياغة سياسة جديدة ترتكز إلى الإصلاح والإنماء، ولاستبدال العقوبات التي تطال اللبنانيين كشعب بالعمل على إرساء أرضية لديناميكية سياسية تؤمّن استقراراً مستداماً للبنان والمنطقة.
إعطاء القضايا العادلة حقّها يشكّل مدخلاً أساسياً لمرحلة سياسية جديدة في الإقليم، ولعل القضية الأحق والأكثر محورية اليوم هي فلسطين، إذ يخاطب توماس فريدمان في مقاله الأخير ترامب متسائلاً: "هل تنذر عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب الى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة بنهاية الضغوط الأميركية على الإسرائيليين والفلسطينيين للتوصل إلى حل الدولتين؟".
من هنا يبدأ كل شيء في منطقتنا، ومن هنا تبدأ الحلول.