بلوغ فيروز التسعين علامة عافية راسخة عن قوة الحياة في لبنان، البلد الذي يفيض كل ما فيه بأكبر من حجمه على الخارطة. هي عزاؤنا في هذا الزمن الرديء، الذي يتم فيه تدمير واحتلال بلادنا، وهذا ليس بالقليل، بل هي من بين عدة مشتركات تبقينا على قيد الأمل، وتمنحنا شجاعة رفض الأوضاع المزرية، التي نمر بها في المشرق العربي.بقاء هذه السيدة العظيمة على قيد العطاء، يعود الفضل في جانب منه إلى قوة هذه الأرض، ويشبه حالاً من العناد، تستحيل هزيمته، بفضل ما يختزن من ذخيرة وأصالة وجمال عصي على الشيخوخة، وأقوى من اليأس والخراب الذي اجتاح حياتنا، هي كما هي معجزة الرحابنة الكبيرة، مصدر إلهام عابر للزمن والأجيال.
(فيروز ذاكرة ثانية لأجيال عربية)لأن فيروز فنانة كبيرة، عرفت، منذ البداية، طريقها نحو القمة بجدارة، ورغم مرور الزمن وتعاقب الأجيال الفنية، لم تنزل عن المنصة، أو يتمكن أحد من إزاحتها أو احتلال مكانها أو ملء الفراغ، الذي تركه غيابها في بعض الأحيان. وهي من بين فنانين قلائل، لم تتأثر أغانيهم بالزمن، بقيت جديدة، تطرب لها، وتتذوقها، الأجيال الجديدة، كما القديمة، وبالقدر ذاته، وهذا أمر لا تفسير له سوى الموهبة الاستثنائية، التي تمتعت بها هذه الفنانة، وفرادة وتميز ومهنية العائلة الفنية التي أحاطت بها ورعتها، صاحبة الخيار في الكلمات والألحان والموسيقى، الطامحة إلى مشروع متكامل، وفق رؤية متوازنة.لم يقبل حضور فيروز القسمة أو الاحتواء وصبغها بلون معين، ورغم أن محاولات كثيرة حصلت من أجل مصادرتها أو تجييرها، فإنها فشلت كلها، لأنها عابرة للحدود والأمكنة الضيقة، والتوصيفات النمطية، وعصية على التوظيف، بما تمتلكه من صفات تعي قيمة ودور الفن، وما يتمتع به من رحابة، وسعة أفق، وتجاوز، ورفض للتعصب، وانفتاح على الآخر بلا أي تخطيط، أو مواصفات مسبقة، مثلها في ذلك، مثل الكبار في الغناء والموسيقى الذين بقيت ذكراهم خالدة.فيروز ذاكرة ثانية لأجيال عربية، لعبت الأغنية الرحبانية، عبر صوتها، دوراً أساسياً في تشكيل وتقوية حاسة الاستماع الفني لديها، مثلما كونت ذائقتها، ووجهت وعيها بعيداً من الرداءة، التي غزت الأغنية العربية في فترة من الفترات، انتشرت فيها موجات تجارية من الفن السيّار. ومن دون مبالغة لها الفضل في انقاذ الأغنية العربية من المستوى الهابط، ذلك أن الرحابنة وضعوا سقفاً راقياً لكلمات الأغنية وللحن والموسيقى، ولم ينزلوا عنه أبداً، ولم تقف خياراتهم عند مرحلة زمنية واحدة، رغم ما كانت تزخر به مرحلة الستينيات من روح جميلة قوية جامحة في الشعر والموسيقى على مستوى العالم العربي، ولم يجمدوا أو ينحازوا للون واحد، أو شكل شعري بعينه، وغنت فيروز، على السواء، القصيدة القديمة والحديثة والعامية، جربت الطرب والتراتيل والأناشيد الوطنية، وقد ساعدها على نجاح التجريب وجود فريق متخصص، يمتلك قدرة على الفرز والاختيار بوعي متعدد الطبقات، في السياسة والثقافة والتراث والموسيقى، وهذا لم يتوفر إلا لعدد قليل جدد من الفنانين، الذين تفرغوا للأغنية كلياً.
(عرفت، منذ البداية، طريقها نحو القمة بجدارة)جعل الرحابنة من تقديم فن غنائي وموسيقى عربية جديدة قضيتهم الأولى، وعملوا بإخلاص على تحقيق الأهداف التي وضعوها لأنفسهم، وقد ساعدهم على المثابرة وتطوير العمل الاستقبال الواسع الذي حظي به مشروعهم في كل العالم العربي، ولدى مختلف الفئات والأعمار، ويندر أن وصل صوت فنان عربي إلى البيوت، التي دخلها صوت فيروز، ولا يزال يتردّد فيها بقوة، في حين تراجع الإقبال على سماع فنانين، كانوا في السابق، على قدر كبير من الشعبية والحضور، وهذا دليل على ما يتحلّى به صوتها من سحر خاص، وقدرة على التأثير من دون حدود أو صلاحية وقتية.فتح صوت فيروز الطريق أمام أجيال من الفنانين في العالم العربي، كي تنظر بعين واسعة متحرّرة من الأحكام الجاهزة، إلى التراث الثقافي من شعر وموسيقى، وشكلت الظاهرة الرحبانية مدرسة فنية لم يسبقها، أو ينجح أحد في منافستها، أو النسج على منوالها، بما في ذلك الدول، التي حاولت العمل على مشاريع كبيرة، بهدف تطوير الأغنية والموسيقى في العالم العربي.فيروز في التسعين حاضرة في حياتنا كعزاء من الخراب والدمار، لم يتقدم بها الفن، تسمعها الأجيال على مقام الحلم، وتتعلق بصوتها بقوة الأمل.