لم يعد مستغرباً أن نشاهد، عقب كل إنذار قاتل يوجّهه أفيخاي أدرعي لإخلاء أبنية مسكونة في الضاحية الجنوبية، قبل تدميرها بدقائق، ثلةً من الشباب، يترصّدون من زوايا قريبة الهدفَ المقصود، بانتظار لحظة إصابته بصاروخ الطائرة. لحظة ثمينة تلتقطها عدسة الكاميرا أو الهاتف المحمول. لحظة تُماثل إحساس الصياد باكتساب رهانه عندما تبتلع السمكة طُعمه، تتصاعد بعدها أصوات التكبير، ممتزجة بنوع من الهزج والاحتفال الكرنفالي، والشعور بالفوز في مباراة التحدي.الأمر لا يتعلق بالربح والخسارة، بل بمتعة المجازفة من خلال اقتراب المرء من خطر الموت، وقهر الرعب داخله. وهو ضرب من ضروب المغامرة، ومجابهة الواقع، والبحث عن حياة خارج المألوف، وخارج الحياة اليومية المعتادة. هو سلوك محفوف بالمخاطر والإثارة، من شأنه أن يمنح المرء ثقة بقوته وجرأته، كما لو أنّه بانتهاكه قواعد الاعتدال، يضيف إلى رصيده الشخصي مزيداً من الحصانة، لا سيما اذا ما خرج سالماً، بعدما عايش دقائق الحرب وانفجاراتها، وطفراتها المميتة، والمساهمة فيها عبر التقاط الصورة، وتجميد الحدث عند النقطة الفاصلة بين الما قبل والما بعد. لم نشهد من قبل، حتى في غزة أو غيرها، مثل هذا الجنوح الأهلي إلى تصوير عملية التدمير، في عين المكان الذي يتخذ شكل العرض المسرحي، بمكوّناته الدرامية، بدءاً من عصف الانفجار في الخلفية، إلى تناثر شظايا الأحجار والزجاج، وتطايُر المتاع المنزلي في الفضاء وتحطّمه، وإلى تشكّل دوامة الغبار الكثيفة التي تغطي وجوه الضحايا والمسعفين الذين يهرعون إلى الانقاذ.
وقد سعت المجتمعات الغربية الحديثة إلى إعطاء البصر قيمة، على ما عداه من حواس في اكتشاف العالم. بعدما كانت لحاسة السمع الصدارة في تلقيها الفرائض والتعاليم الدينية في الأديان التوحيدية، وسيادة الثقافة الشفهية، وما كان يصاحب المتدين في حياته اليومية من طقوس كالصلاة والوعظ والإذكار والدعاء. ومع اختراع المطبعة، عُزل السمع عن عرش الحواس، وحُرم امتيازاته السابقة، وفق عبارة دافيد لوبروتون. وغدا للمسطور والمصوَر سلطة ومرجعية معرفية أساسية، كانت سابقاً من نصيب السمع. وتزايد الاعتماد على المرئي الذي توسّع نطاقه، فاقتحم مناطق جديدة في حياة الفرد والجماعة، فأحدث تبدّلات وانتقالات، تمحورت حول ما سُمي "الثقافة البصرية" التي رسمت حدود المرئي واللامرئي. ونقلت العلوم مفهوم المنظور من قاعدته الهندسية الخاصة بالعمارة، إلى كل ما يدل على طريقة التفكير، وانتظام المعارف. وكان العرب من قبل يوحّدون بين رؤية العين ورؤيا القلب، أي العقل. وغدا الناس اليوم مغمورين في جميع أنحاء المعمورة في بحر الثقافة البصرية، وقد اكتسحها فيض الصور الثابتة والمتحركة. وكان لابتكار الكاميرا، وما نجم عنه من انتاج فوتوغرافي غزير، أن عدّل علاقة الناس مع العالم. وبالنسبة إلى فالتر بنيامين فإنّ اختراع التصوير، يوازي بتأثيره اختراع الطباعة، حيث يُضاعف التصوير الفوتوغرافي المشهد إلى عدد غير محدود من النسخ. وهو ما يشبه في المجتمعات البدائية عمل السحر. وفي مواجهة المرئي الفاني، تتغلّب الصورة على عوامل الزوال والفناء، وتُستعاد في كل حين كعنصر أساس، ترتكز عليه الذاكرة في نشاطها وديمومتها.وتؤدي الصورة دوراً في رسم مناخات الحرب، وتمدّنا بالشواهد على قساوتها. والحرب موضوع عريق في سجل الابداع البصري، وما وازاه من إبداع شعري، نذكر منها عند العرب قصيدة البحتري: "وصف إيوان كسرى" التي تحوّلت إلى لوحة تنبض بالحياة، يُسمع فيها صليل السيوف، وجلجلة الخيول. ومنها:
تصف العين أنهم جدّ أحيا… ء لهم بينهم إشارة خُرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى… تتقراهم يداي بلمس. وقد أدى التصوير الفوتوغرافي دوراً في زمن حرب القرم، تبعته مراحل سلّطت الضوء على محيط الحرب، وما يتخلله من جرحى وقتلى وأسرى. ثم في حروب الأفيون في الصين، والحرب الكونية الأولى، وتعزّز دوره ومكانته في الحرب الإسبانية الأهلية. وفي حرب فيتنام، ظهر دور المراسل الحربي الديناميكي الذي انخرط في متابعة صولات المعارك وجولاتها، وشهد عن كثب ضراوتها وفظائعها. وعكسَ التصويرُ الفوتوغرافي، ثم التصوير التلفزيوني الذي سلب الصورة الفوتوغرافية الثابتة تفوقها، أهميةَ تمثيل الحرب، من خلال التأمل الأخلاقي الذي يجسد علاقة الصورة بالواقع، من غير تحريف او تشويه، ويشهد على الحقيقة والعدالة. وكانت لكتابات سوزان سونتاغ التي شهدت ثلاث حروب اختبرت فيها الخنادق، وعاشت تحت النار، آراء متزنة وعميقة، حول دور الصورة التي تطاردنا في الحروب وبعدها، إذ اعتبرت انّ لبعض الصور، لا سيما التي تصوّر الفظائع، وظيفة الشهادة التي لا يمكن للذاكرة أن تمحوها. بل إنّ تثبيت الصور المرجعية تساعدنا على تعديل رؤيتنا للعالم، عبر هذه الشهادة البصرية. وبفضل كتابات سونتاغ المتكررة حول هذا الموضوع، تبنى صحافيون شهدوا حرب فيتنام وكوريا، وحرب يوغسلافيا، وحرب الخليج، والانتفاضة الفلسطينية، وحرب غزة ولبنان، موقفها الاخلاقي من الصور المعروضة التي تحمل في رأيها قوة مؤثرة، باعتبارها كتابة في صفحة العالم، لا تزول ولا تنقرض. بل إنّ لانتاج الصور الفوتوغرافية هدفاً بسيطاً ورمزياً، في الوقت ذاته، هو التقاط العالم بالعين.
(الطفل الآن الكردي)بيد أنّ للصورة مدخلات ومخرجات مختلفة، فلا قيمة للصورة في حدّ ذاتها، بل هي مشروطة بالجهاز المعرفي، والسياق الاجتماعي للشخص او الأشخاص المعنيين. وكل صورة تشهد على ظروف إنشائها، وعلى من قام بتصويرها، وكيف، ولماذا، ولمن تُوجّه. لذلك فإنّ عرض الصورة أو حجبها، يعتمد على معايير متعدّدة، وعلى اعتبارات أخلاقية وسياسية وقانونية. لذلك غالباً ما تتحوّل بعض الصور إلى مثار جدل وتجاذب. وكثيراً ما يفضي التلاعب التقني او التجاري بها، إلى تشويهها، والانحراف عن دورها ووظيفتها كشاهد على الفظاعة. فالصورة كمستند ووثيقة لا تتعلق بحد ذاتها، بل بسياقها واستقبالها. وإن لعبت صور حرب فيتنام دوراً مؤثراً في الرأي العام الأميركي، فإنها لم تكن كافية لولا المعارضة التي اثارها فرض التجنيد الإجباري، والخسائر البشرية الفادحة التي مُني بها الجيش الاميركي. والصورة تقوى بما يصدر عنها من احتكام إلى وعي سياسي مسبق، ومن كلام حولها، وحول ظروفها وأشخاصها، ووقت حدوثها وتاريخها. وكما تمثّل الصورة لحظات المأساة والدمار، يمكن لها في زمن مختلف، أن تخلّد آيات النصر والعظمة، كما في رفع العلم فوق مبنى الرايخستاغ في 2 أيار 1945 أثناء معركة برلين، تتويجاً لانتصار السوفيات على ألمانيا النازية. أو أن تتحول الصورة إلى تعاطف عاجز، وإلى شعور بالذنب ووخز الضمير، كما تجلّى في صورة استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، قبل ان تتحوّل إلى أيقونة بصرية. وموت الطفل السوري المهاجر آلان كردي، وهو مرمي على شاطئ البحر، رمزاً لمعاناة اللاجئين في العالم.