بدخول حرب لبنان مرحلةً جديدة من التّفاوض بالنّار، يشهد الميدان، وتحديدًا عند محاور التوغّل البريّ تصعيدًا مستمرًا، في وقتٍ لم تعد فيه المفاوضات محصورةً بالمسعى الديبلوماسيّ وحسب، بل تحوّلت إلى معركة بالنار على أرض الواقع، حيث يسعى طرفي الاقتتال لتعديل ميزان القوى وإثبات قدراتهما على تحقيق أهدافهما وبشتّى الطرق. وفيما تُشير التقديرات، لكون إسرائيل تحاول انتزاع ما لم تستطع تحقيقه ديبلوماسيًّا من خلال عملياتها العسكريّة المتواصلة في الجنوب اللّبنانيّ، يراهن حزب الله على تعزيز موقفه وتحسين شروطه من خلال صدّه المستمر للتوغّلات الإسرائيليّة.
التقارير الميدانيّة وبيانات الحزب فضلًا عن التصريحات الإسرائيليّة، تُشير اليوم إلى معاركٍ محتدمة في كل من القطاعات الشرقيّة (محور الخيام)، والغربيّة (محور شمع والبياضة)، مع أنباء متضاربة تفيد تارةً بتراجع وانسحاب القوّات المتوغّلة وطورًا إلى "نجاحها" في التمركّز عند نقاطٍ متفرقة غربًا وشرقًا. للوقوف على أبعاد هذا التصعيد وتحليل الوضع الميدانيّ في الجنوب، تواصلت "المدن" مع الخبير العسكريّ والاستراتيجيّ، العميد الركن المتقاعد، بسام ياسين.معارك القطاع الغربيّيستهل ياسين، حديثه بالإشارة إلى أن مختلف مصادر المعلومات تقريبًا هي عينها، أي بيانات حزب الله وبعض الصحفيين الموجودين في الجبهات، إضافةً إلى البيانات التابعة للإسرائيليين. ولا شهود عيان يؤكدون المعلومة أو ينفونها. قائلًا: "مع ذلك، يبدو واضحًا، أن التّوغّل باتجاه البياضة انطلق من شمع. هذا التّوغّل باتجاه الغرب يُعدّ خطيرًا لأنّه لا يمكن للإسرائيليين تثبيت مواقعهم فيه بسهولة، فكيف إذا كانت هناك مقاومة كبيرة؟ يُقال إن أربع دبابات قد احترقت هناك، مما يعني أنّهم قد يضطرون إلى التراجع لتأمين خطوطهم الخلفيّة. لذا، أجد المعلومات الّتي تفيد بانسحابهم من البياضة باتجاه شمع قابلة للتصديق، الأمور واضحة، إذ إن هذا الخرق في البياضة لن يستمر إذا لم يتم توسيع الجبهة باتجاه الشرق والغرب".
في المقابل، يشير ياسين إلى أنّه وعلى جبهة طيرحرفا في اليمين، لم يحدث أي تقدّم، وبالتالي لم يتمكن الإسرائيليّ من التوسّع في مجدل زون وطير حرفا باتجاه الشرق. أما باتجاه الغرب، وبحسب العميد المتقاعد، فإن الجيش الإسرائيليّ قام بتقسيم قوّاته إلى ثلاث اتجاهات:
- قسم توجه صوب شمع باتجاه البياضة.
- قسم باتجاه وادي حمول الناقورة.
- قسم من علما الشعب يتجه نحو الناقورة.
مع ذلك، يؤكّد ياسين أن "المنطقة الحرجيّة الواسعة لا تؤمن سيطرة شاملة إلّا إذا تمّ تنظيفها بالكامل. أعتقد أن الهجوم على الناقورة لم ينتهِ، ولم يحقّق الإسرائيليّ شيئًا داخل بلدة الناقورة. لذلك، فإن هذه الانسحابات، إن صحت الأخبار، متوقعة".محور الخيام: اشتباكات ضاريّةأما عن الاشتباكات في الخيام فيصفها ياسين بـ "الضاريّة"، قائلًا: "الخيام لم تسقط بعد، ومن الصعب أن تسقط، فيها أكثر من ألفي مقاتل، ومن المستحيل أن تسقط. لهذا السّبب، المعارك محتدمة جدًا. الإسرائيليون أنفسهم يتحدثون عن عنف المعارك في الخيام. ويقال إن هناك استشهاديين يتوجهون لقتل أنفسهم وسط القوات المهاجمة بهدف إلحاق الخسائر بهم. وأعتقد أن معركة الخيام ستطول كثيرًا قبل أن يتمكن الإسرائيلي من السيطرة عليها". أما في بنت جبيل، فلم يحدث أي تحرك، وهناك قصف مدفعي فقط. لكن هذا القصف قد يكون تمهيدًا لمعركة أخرى بعد الخيام، وفق ياسين.
"بالنسبة للمرحلة الثانيّة من التوغّل البريّ، إذا تمكّن الإسرائيليّ من السّيطرة الكاملة على الخيام وواصل تقدمه نحو مرجعيون والقليعة، ثم الطيبة وبيت سريان وبيت ياحون، وصولًا إلى بنت جبيل، ومن بعدها البياضة، فستكون المرحلة الثانية قد تحققت. لكن إذا لم يصل إلى هذه النقاط، فهذا يعني أن المرحلة الثانية قد فشلت وخسرت. وأنا لا أعتقد أنه سيتمكن من تحقيق المرحلة الثانية بسبب عناد المقاومة"، يُضيف ياسين.
(خريطة انتشار قوّات الجيش الإسرائيليّ المتوغّلة، شمال الخيام وعند حدودها الشرقيّة - "المدن")عمق التوغّلمن جهةٍ ثانيّة، يؤكد ياسين، أن عمق التوغّل الإسرائيليّ في شمع، يبلغ حوالي خمسة كيلومترات، ولا توجد نقاط أعمق من ذلك. أما في الخيام، فقد قيل إنهم وصلوا إلى شمال الخيام، مما يعني أن العمق يصل إلى سبعة كيلومترات. لكن الجيش الإسرائيليّ لم يتمكن من إحداث خرقٍ حقيقيّ، وقد يضطر إلى التراجع، حتّى من منطقة دير ميماس القريبة، حيث لم يتمكن من الاستقرار فيها، وخرج منها مجددًا. قائلًا: "الإسرائيليّ لا يتمركز في أي مكان بسبب خوفه الكبير من الكمائن، كما أن الطقس يعمل لصالح المقاومة، ومع مرور الوقت، سيكون الوضع أكثر صعوبة بالنسبة له".
هل يمكن القول إن خطّ الدفاع الأول أو قرى الحافة قد سقطت جميعها اليوم؟ تسأل "المدن".
فيجيب ياسين: "الصورة ليست واضحة تمامًا، ولكن يبدو أن أغلب قرى الحافة الأماميّة قد دُمّرت بالكامل. وبالتالي، فإن الإسرائيليّ الموجود فيها يعتبر نفسه قد احتلها ويسيطر عليها". ويستطرد، لدى سؤاله عن صحّة ما تداول عن انقطاع الاتصال بين مقاتلي الحزب وغرف عملياته بالقول: "عندما نرى رميات مدفعيّة وصاروخيّة بعيدة المدى كما حدث بالأمس، فهذا دليل على وجود تواصل بين قوات المقاومة. وإذا حدث انقطاع في الاتصال مع مجموعات داخل الخيام، فمن الممكن أن تعمل كل مجموعة بشكلٍ مستقل. ومع ذلك، تبقى القيادة والسّيطرة الأساسيّة في يدّ الحزب. في بعض المناطق، قد ينقطع الاتصال بسبب التشويش أو تدمير مراكز الاتصال. وفي هذه الحالات، يتصرف كل عنصر بناءً على ما تعلمه للتعامل مع فقدان الاتصال. وأعتقد أن عناصر الحزب لا يزالون أقوياء على الأرض وفي الميدان".استهداف الجيش اللّبنانيّوعن دلالات استهداف الجيش الإسرائيليّ لمراكز الجيش اللبناني يقول: "الإسرائيليّ يستهدف مراكز الجيش بدّقة، ولا توجد أي رماية عشوائيّة أو بالخطأ. كل الاستهدافات سواء كانت بواسطة دبابة، طائرة مسيرة، طائرة مقاتلة، أو حتّى مدفعيّة، هي دقيقة. واستهداف مركز الجيش في العامرية كان مقصودًا، مما يدل على أن الجيش اللبناني ليس بمنأى عن الاستهداف. هذا يطرح تساؤلًا كبيرًا: من سيحمي الجيش إذا لم تكن هناك ضمانات قوية بأن الإسرائيلي لن يعتدي على لبنان؟"، يقول ياسين. مضيفًا: "حاليًا، حماية الجيش تعتمد على القرار الدوليّ الذي يمنع استهدافه، ولكن في أي لحظة قد يصبح الجيش هدفًا، مثل المدنيين والمقاتلين، بالرغم من كونه ليس في قلب المعركة".
التّفاوض بالنارويختم ياسين حديثه مع "المدن" بالقول إن "الوضع الحاليّ يشبه إلى حدٍّ كبير ما حدث في غزّة، مع اختلاف أن لبنان لديه شكل دولة، مما يمنحه ضمانات دوليّة أكبر. ومع ذلك، لا يمكن الوثوق بأي إعلان عن وقف إطلاق نار مع الإسرائيليّ، إلّا إذا تمّ توقيع اتفاقٍ رسميّ، وعاد الناس إلى بيوتهم بالفعل. تجربتنا مع الإسرائيلي تجعلنا لا نثق بأي وعود بوقف إطلاق النار، أو تسوية، أو هدنة، أو مفاوضات، إلا بعد تنفيذها على أرض الواقع".