يبدو أن الفصائل المسلحة للمعارضة السورية اختارت توقيتاً ملفتاً، تزامن مع بدء وقف إطلاق النار في لبنان، كي تكسر هدوءاً طويلاً على الجبهات، استمر نحو خمس سنوات منذ آذار/مارس 2020، حينما بدأت عمليتها العسكرية الكبيرة "عمليات ردع العدوان"، باتجاه ريف حلب الغربي. حققت هذه العملية نتائج ميدانية مهمة منذ ساعاتها الأولى، وأصبحت الفصائل على بعد كيلومترات قليلة من غربي مدينة حلب، بعدما سيطرت على أراضٍ تبلغ مساحتها نحو 250 كيلومتراً مربعاً، وتضم العشرات من القرى والبلدات، ومواقع عسكرية مهمة للنظام والميليشيات الأجنبية، من أبرزها مقر الفوج 46.مثل هذا التطور يتجاوز بأهميته ما تحقق فيه من إنجازات ميدانية، ليكون بمثابة رسالة سياسية واضحة، بضرورة إعادة النظر بمجمل الترتيبات السياسية السابقة المتعلقة بسوريا، في ضوء المتغيرات الإقليمية، والتهديدات الجدية التي تواجهها إيران، وميليشياتها، وما تعرض له حزب الله في لبنان من خسائر جسيمة ينبغي أن تظهر آثارها على الساحة السورية. ولعل زيارة بشار الأسد المفاجئة إلى موسكو الخميس، أو ربما استدعاؤه السريع إليها، هو نتيجة مباشرة وسريعة لما يحصل غربي حلب.
بطبيعة الحال، تفرض حالات الجمود العسكري، والهدن الطويلة في الحروب، قدراً من تراجع الجاهزية القتالية، وترهل قدرات المقاتلين، والاطمئنان لحالة الوضع القائم، وربما يكون هذا الأمر أحد أسباب الهزائم الثقيلة والخسائر الكبيرة التي تعرضت لها قوات النظام والميليشيات الساندة لها. لكن ذلك لم يكن حال القوات المهاجمة، وهو يعني أن قوات المعارضة، كانت تخطط وتستعد لهذه العمليات ربما منذ أشهر، في تفاعل مهم مع السياق الإقليمي، لم يكن مقبولاً تجاهله أو عدم الاستفادة منه. ومن الواضح، أن الفصائل، لم تضيع وقتها خلال السنوات الماضية في التهيئة لمعارك فاصلة.الأمر الآخر والمهم، يتعلق بالحسابات التركية التي لا ينبغي إهمال تأثيرها الحاسم على هذه العمليات ونتائجها. فمع العودة لحقائق العلاقة المباشرة لتركيا مع الفصائل المختلفة في شمال وشمال غرب سوريا، سواء من خلال الدعم، أو التفاهم والتنسيق، يمكن تصور أهمية هذه العمليات العسكرية للمصالح التركية على أكثر من صعيد. فمن جانب كررت أنقرة التعبير عن قلقها الشديد من تأثير الحرب الإسرائيلية على أمنها القومي، لا سيما في إمكانية استغلال ميليشيا قسد وحزب العمال فراغات القوة في سوريا للتوسع وتهديد الأناضول، ومن جانب آخر، فإنها أيضا لم تكن راضية بالتأكيد عن استخفاف النظام المستمر بدعوات الرئيس أردوغان للتطبيع مع دمشق، ورغبته بالاجتماع مع بشار الأسد لحل الخلافات والاتفاق على حلول للأزمة في سوريا.
لم يكن مقدراً لتركيا أن تتجاهل هذين المتغيرين، كما لم يكن مقدر لها أيضاً أن تتجاهل الإهمال الروسي لمصالح تركيا الأمنية، وعدم اهتمامها بسلبية النظام في التعاطي مع دعوات الرئيس أردوغان، فضلاً عن أن الانتظار أكثر لما ستؤول إليه الأوضاع في الإقليم وفي سوريا بشكل خاص، بدا وكأنه خسارة مبكرة، في سياق صراع للسيطرة الإقليمية تخوضه إسرائيل وإيران، ويخسر فيه من يظل ينتظر نصيبه من الأذى والاختراق. بمعنى آخر، فإن تركيا، سواء كان لها دور ما في المعارك الحالية، أم لا، فإن ما حققته المعارضة من اختراقات ميدانية سريعة وواسعة، منحتها فرصة إيصال رسائل مباشرة للنظام ولروسيا وإيران مجتمعين، بضرورة إجراء ترتيبات جديدة، تتجاوز مرحلة سلسلة "أستانا" ومخرجاتها، وتضع قواعد جديدة للتعامل على الأرض، في ضوء الوقائع الإقليمية الجديدة.تلاقى هذا الهدف مع تطلعات الفصائل المعارضة في إدلب. فهي صاحبة المصلحة الحقيقية والمباشرة في إعادة ترتيب خرائط الانتشار وحدود التماس، بعدما قضت سنوات صعبة وهي تحاول معالجة متطلبات واحتياجات ملايين النازحين في إدلب، التي باتت تستوعب أربعة أضعاف عدد سكانها الأصليين، مع موارد محدودة. كان التوسع الجغرافي على حساب قوات النظام والميليشيات هو أحد الحلول المطلوبة لغرض توفير ملاذات مناسبة للنازحين. ولذلك لم يكن من باب الخيال العاطفي، الحديث عن أن الأراضي التي استولت عليها المعارضة يمكن أن تستوعب 150 ألف خيمة أو ما يصل إلى أكثر من نصف مليون شخص.
وفضلا عن ذلك، فإن الوصول إلى مشارف حلب، يمثل منجزاً معنوياً وميدانياً مهماً للثوار في شمال سوريا، يعزز موقفهم التفاوضي وحضورهم في أي تسويات ممكنة للقضية السورية، وفي الوقت ذاته قد يصبح حافزاً مباشراً لعمليات تقدم نوعي في مناطق أخرى داخل سوريا، تستفيد من زخم هذه العمليات، وحالة القلق وعدم اليقين بين الميليشيات الإيرانية الغازية، وعدم جاهزيتها للقتال.في المحصلة، يمثل هذا التحرك القوي للأوضاع في شمال غرب سوريا، تطوراً ينبغي مراقبته بعناية، ومتابعة مساراته، لأنه قد يكون بالفعل مقدمة لاحتمالات مختلفة. فهو قد يعيد الصراع المسلح، ويدفع أطرافاً أخرى مثل قسد والعشائر في دير الزور لفرض وقائع جديدة في محيطها الميداني، أو أنه سيفضي إلى عملية سياسية جديدة، تنتج شروطاً وأوضاعاً مختلفة على الأرض، أو أنها قد تقدم حلولاً لمجمل الأزمة السورية لأول مرة منذ 13 عاماً، أو أن المعارك الأخيرة ستشجع أطرافاً خارجية مختلفة على التدخل لفرض وقائع تخدمها في المنطقة، وتعزز من مكاناتها ومصالحها، في الخرائط الإقليمية المفترضة حين ينتهي هذا الصراع يوماً ما.