على طبقات دولية وإقليمية وداخلية، بُني اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل. هو اتفاق لا يُراد له أن يبقى محصوراً على الساحة اللبنانية، بل تنطلق منه مساع للوصول إلى اتفاق في قطاع غزة يفضي إلى إنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن وإعادة خلق ترتيبات سياسية وأمنية جديدة لواقع القطاع. لا تتوقف تداعيات الاتفاق عند حدود لبنان وفلسطين، على الرغم من محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزرائه اليمينيين تقديم ورقة وقف إطلاق النار في لبنان لصالح تنفيذ خطتهم لضم أجزاء من قطاع غزة، والتفرغ للضفة الغربية، في موازاة إعلان نتنياهو نفسه عن التفرغ لمواجهة إيران، وتوجيه تحذير مباشر للنظام السوري، لجهة ردعه عن الاستمرار في تهريب الأسلحة إلى حزب الله. ومنذ عقود لا يمكن فصل لبنان عن تطورات فلسطين وسوريا. أي اشتعال أو تهدئة في أي من هذه الدول، لا بد أن يتردد صداهما في الأخرى. ولذلك فإن اتفاق وقف النار سيكون له تداعيات على هذه الملفات.
البعد الدولي
الطبقة الأولى للاتفاق كانت دولية، توفرت فيها ظروف كثيرة أميركية، إيرانية، فرنسية ومع دول أوروبية أخرى لا سيما بريطانيا، وألمانيا. تتداخلت ملفات كثيرة أفضت إلى مثل هذا الاتفاق من بينها:
- إصرار الأوروبيين والإيرانيين على الدخول في مفاوضات مباشرة حول الملف النووي.
- استمرار التفاوض غير المباشر بين إيران والإدارة الأميركية، عبر سلطنة عمان، وعبر جهات عديدة، لإعادة إحياء مفاوضات الملف النووي أيضاً في ظل ولاية جو بايدن وقبل تسلّم دونالد ترامب.
- الظروف الضاغطة على نتنياهو داخلياً وخارجياً على خلفية قرار الجنائية الدولية، والاتصال السرّي الذي حصل بين ماكرون ونتنياهو يوم الجمعة الفائت برعاية بايدن شخصياً، لمنح نتنياهو حصانة ديبلوماسية داخل فرنسا من قرار المحكمة، في مقابل اقتناع نتنياهو بوقف الحرب في لبنان وبمشاركة فرنسا في لجنة المراقبة.
البعد الإقليمي
الطبقة الثانية إقليمية، بنيت على تقاطعات بين دول عديدة في الإقليم، من إيران إلى تركيا، فمصر وقطر، بما يتصل بملف لبنان، غزة، وسوريا. إذ أراد الأميركيون والإسرائيليون أن يكون اتفاق وقف إطلاق النار عنصراً ضاغطاً على حركة حماس، لدفعها إلى إبرام الصفقة. وذلك يتجلى من خلال:
- تحرك مصري قطري جديد على خطّ التفاوض مع حركة حماس، وزيارة وفد أمني مصري إلى إسرائيل لمناقشة اتفاق وقف النار.
- استمرار استعداد تركيا للعب دور في مستقبل غزة وحتى في لبنان، بحرياً أو برياً، من خلال مشاركة تركيا في قوات اليونيفيل.
- سعي إيراني إلى وقف النار في لبنان وفي قطاع غزة، وترتيب العلاقة مع السعودية حول اليمن، وترتيب العلاقات مع واشنطن لتجنّب المواجهة مع إسرائيل، خصوصاً أن إيران كانت اشترطت وقف إطلاق النار لإعادة النظر في مسألة تنفيذ ردّ ضد إسرائيل.
- تحرك تركي عسكري في سوريا بناء على التنسيق المسبق بين تركيا وأميركا، خصوصاً مع إبداء الأتراك الاستعداد للدخول إلى مناطق شمال شرق سوريا، في حال انسحب الأميركيون من هناك، وسط رهان تركي على التفاهم حول هذه النقطة مع دونالد ترامب.
- تحرّك قوى المعارضة السورية في فتح معركة حلب، والتي تشكل ضغطاً من عنصرين، أولاً من الأتراك على النظام في مسألة استمرار وضع الشروط لإنجاز المصالحة مع تركيا. وثانياَ، ضغط أميركي على دمشق حول فتح الكثير من المعارك على النظام، في حال لم يلتزم بوقف تهريب الأسلحة إلى لبنان.
البعد اللبناني
لبنانياً، للاتفاق ثلاثة أبعاد من ثلاث طبقات أيضاً:
أولاً، الطبقة الدولية، وهي تتركز بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وقد تجسد ذلك في كل التصريحات الأميركية والفرنسية حول ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة لإعداد ورشة سياسية واقتصادية وإدارية ووضع خطة إعادة الإعمار.
ثانياً، الطبقة الإقليمية، وهي ستتركز بين إيران، السعودية، قطر، ومصر. وهناك نقاش بين هذه الدول من ضمن اللجنة الخماسية ومن خارجها، حول أهمية التقاطع والتقارب في إعادة انتاج سلطة متوازنة.
ثالثاً، الطبقة المحلية، وهي التوافق والتقاطع بين القوى الداخلية على انتخاب الرئيس التوافقي وتشكيل الحكومة الجديدة، على قاعدة انتخاب رئيس يجمع ولا يفرق ولا يسهم في تكريس غلبة طرف على الطرف الآخر. وهذا ما يتجسد من خلال التشاور والحوار بين الأفرقاء في الداخل، وبين الديناميكية المساعدة التي تقوم بها اللجنة الخماسية.
الاتفاق وتشكيل السلطة
ذلك لا يمكن أن ينفصل عن محاولات تفاهم سعودي إيراني حول الوضع في اليمن، وهو ما ترجم في تراجع عمليات الحوثيين وتوفير الحماية في البحر الأحمر وباب المندب، ولا بد له أن ينعكس على لبنان أيضاً، خصوصاً أن الترجمة السياسية لاستمرار وقف إطلاق النار ووضع الآليات لليوم التالي، يكون من خلال إنتاج تسوية سياسية شاملة تعيد تشكيل السلطة من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة. وهو ما يقوم به المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان مع محاولة جمع أسماء من الكتل لحصرها بعدد قليل من المرشحين.
كل ما سلف هو جزء من التحديات التي ستواجه تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، والذي لا يزال فيه الكثير من الغموض حول آلية التطبيق، مع تشديد مصادر ديبلوماسية على أن اتخاذ قرار الاتفاق كان صادراً عن توجيهات وإصرار أميركي إيراني مشترك. وأحد أهم التحديات هو ما يتصل بوضع حزب الله ما بعد وقف النار، خصوصاً في ظل تعالي الأصوات الداخلية المعارضة للحزب والمطالبة في إنهاء مسألة تسلحه. ويستند هؤلاء على البند الأول من الاتفاق الذي يشير إلى أنه لا يجب على حزب الله أو أي فريق لبنان آخر إطلاق النار باتجاه إسرائيل. وهذا ما يفسرّه المعارضون بأنه إنهاء لوظيفة ودور سلاح الحزب في تحرير الأرض اللبنانية المحتلة أو تحرير فلسطين، طالما أن الحزب وافق على فصل الجبهات وإيقاف جبهة الإسناد.تحديات حزب الله هنا سيكون الحزب أمام ثلاثة تحديات:أولاً، تحدي تشييع أمينه العام انطلاقاً من الدعوة إلى التعبئة العامة الكبيرة، وحشد الناس بمئات الآلاف لتكريس قوته الشعبية والسياسية، وتعميد مشروعية القيادة الجديدة للحزب بهذا الاستفتاء.
ثانياً، تحدّي تطبيق الاتفاق والانسحاب بالسلاح الثقيل من جنوب الليطاني، وسط رفض الحزب تسليم أسلحته. بل يصرّ هو على التصرف بها شمال الليطاني.
ثالثاً، تحدّي إعادة الإعمار وتوفير التعويضات للناس الذين تضررت بيوتهم ومصالحهم وأرزاقهم. وذلك سيكون مرتبطاً بجملة تفاهمات مع إيران ومع الدول الأخرى التي ستقدم المساعدات. فأي مساعدات إيرانية ستكون خاضعة لتفاهمات مع المجتمع الدولي للسماح بها وستكون خاضعة لرقابة أميركية. كما أن الدول الأخرى التي ستقدم المساعدات في سبيل إعادة الإعمار ستربط ذلك بنتائج التسوية السياسية وتحقيق التوازن فيها.
يبقى هناك تحدّ رابع أمام الحزب وهو مسألة إطلاق أسراه من المعتقلات الإسرائيلية. وهو ما تعتبر مصادر أنه سيكون مرتبطاً بصفقة وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية. وسيكون بناء على تفاهمات بين الحزب وحماس برعاية إيرانية. اتفاق سيكون أمام تحديات كثيرة، من بينها استمرار هذه التفاهمات والتقاطعات الإقليمية، حتى ما بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والوصول إلى صيغة ملائمة بشأن نفوذ إيران ووضع حلفائها في المنطقة، ولا سيما في لبنان، سوريا، والعراق.