يوم زار الرئيس جوزاف عون الرياض في السادس والعشرين من كانون الأول 2024 بصفته قائداً للجيش، حينها وُلدت ملامح مشروع رئيس للبنان، حتى لو كان ظاهر الزيارة دعم الجيش وملف العدوان الإسرائيلي على لبنان. واليوم، يزور عون السعودية في أول زيارة خارجية له كرئيس للبلاد، بعد اخر زيارة قام بها الرئيس السابق ميشال عون للرياض في العام 2017. يدشن عون الثاني الانفتاح على العالم من بوابة السعودية، في زيارة يتوقع لها أن تطلق دعم المملكة للبنان معنوياً واقتصادياً، على أن تستأنف السعودية بدورها، ما نأت بنفسها عنه لسنوات في لبنان، باعتباره ساحة لتقاطع النفوذ.
ما بين الـ2017 و2025، تبدّل المشهد ليس في لبنان فقط، بل في العالم أجمع. يذهب عون إلى السعودية بتعويم وزخم عربي ودولي. لبنان ربما تغير، والسعودية أيضاً، دولة على أرضها اليوم يجتمع قادة العالم. بالأمس حضنت لقاء أميركيا – روسياً، سيؤسس للقاء قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، ينهي حرب أوكرانيا قريباً، وقبلها شهدت على قمة مصغرة بحثت في خطط أميركا لمستقبل قطاع غزة. دولة تبحث عن مصالحها، تبني أبعاد علم الجيوستراتيجيا بتوطيد علاقاتها، فتفتح ذراعيها حاضنة، ولكن ضمن شروط ومكاسب. وها هي تستقبل الرئيس عون والوفد المرافق قبيل توجهه إلى القاهرة للمشاركة في القمة العربية الاستثنائية، بعدما اوضح عون أنّ اختياره السعودية كأول وجهة خارجية يأتي "إيماناً بدور السعودية التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه، وتأكيداً لعمق لبنان العربي كأساس لعلاقات لبنان مع محيطه الإقليمي".عودة مرهونة بالإصلاحاتتأتي أهمية هذه الزيارة إذا من حيث التوقيت أولاً، وهو ما تؤكده مصادر بعبدا لـ"المدن" باعتبار أنّ "الزيارة تستمد أهميتها ودلالاتها عبر استقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لعون، للإعراب عن دعمه للمرحلة الجديدة في لبنان، بعد المتغيرات التي حصلت". وبحسب المصادر "فإنّ استعداد السعودية للعودة إلى لبنان، بما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن العودة ستكون مرتبطة حتماً بمجموعة من الإصلاحات المطلوبة من لبنان".
من جهته، يكتفي وزير الخارجية والمغتربين يوسف رجّي رداً على سؤال لـ"المدن" بالقول إنّه "حتما سيكون هناك مكتسبات كبيرة للبنان جراء الزيارة إلى السعودية"، مفضلاً التريث في الحديث لما بعد العودة من الزيارة.وإذ لا يختلف اثنان أنّ لبنان سيحصل على مكتسبات وخصوصاً بما يتعلق بالاتفاقيات الاقتصادية والتصدير للسعودية، والتي تنتظر التواقيع الرسمية، وبأن زيارة عون ستسرّع ربما الاجراءات، ولكن الاقتران بالإصلاحات يبقى هاجس المملكة، وهو ما لمّح إليه أكثر من مرة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان لدى زيارته بيروت في وقت سابق، والتي كسرت جليد 15 عاماً لآخر زيارة لمسؤول سعودي رفيع المستوى إلى لبنان. بن فرحان الذي وعد بمساعدة لبنان "لكن المساعدات مشروطة"، وعليه فإنّ الاصلاحات شرط أساسي للولوج للعودة السعودية. ناهيك عن العودة المقرونة بعمل الحكومة وابعاد حزب الله عن دائرة القرارات الأساسية في البلد، بعد أن تمثل الحزب في الحكومة، على الرغم من عدم الارتياح السعودي لتمثيل حزب الله في الحكومة. وهنا يمكن التوقف عند مقال نُشر في "الوطن السعودية" هاجم سلام لقبوله بحكومة فيها حزب الله، إلى أنّ عاد القيمون على الجريدة وسحبوا المقال. اضافة إلى رغبة السعودية التي تجسّدت في موضوع التيار الوطني الحر، إذ عُلم أنّه كان هناك مسعى أو اصرار أن يكون "التيار بعيداً في هذه المرحلة".البرودة السياسيةوالمؤكد أنّ هذه الزيارة ستجر زيارات اخرى، للتوقيع على الاتفاقيات الثنائية المرتبطة بحركة التصدير والتعاون الاقتصادي بالدرجة الاولى. وإذ يمكن اعتبار أنّ هذه الزيارة هي اختبار للبنان من قبل السعودية على اساس تناسق خطاب العهد مع المعطيات على الأرض في المرحلة الجديدة، فإنّها في المقابل اختبار لجدية السعودية ومعها دول الخليج بمدى الالتزام بتقديم الدعم للعهد الجديد على المستويات كافة، وخصوصاً أنّ هذه الدول وعلى رأسها السعودية لن تقدم سنتاً واحداً غير مقرون بالإصلاحات وتطبيق القرارات الدولية.
لم تكن السعودية يوماً بعيدة عن لبنان، حتى في أوقات البرودة السياسية التي رافقت مراحل مفصلية ومصيرية مرّ بها لبنان على مدى عقود. راقبت السعودية لبنان أيام القطيعة، وعادت لتشكل اليوم مدماكا أساسياً لها في الحياة السياسية، وتجلى هذا الامر أولاً بالرافعة التي "علّت" عون إلى سدة الرئاسة الأولى، سواء عبر الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان أو اللجنة الخماسية التي استعادت فيها السعودية زمام المبادرة. واليوم يريد لبنان أن يستثمر في رصيده أمام السعودية ما يجعل هذا الزخم يترجم إلى افعال قابلة للاستثمار، وأن تكون السعودية بوابة لبنان إلى العالم أجمع فيما بعد.محطات ما بين السعودية ولبنان والسعودية كانت حاضرة بقوة في كل محطات لبنان، خصوصاً في المرحلة ما بين نهاية الستينيات إلى ما بعد الحرب الأهلية، مرورا بالمحطة الأساس وهي اتفاق الطائف عام 1989. فالعلاقة لم تبدأ مع الطائف، بل ثمة الكثير من المراحل يمكن التوقف عندها في العلاقة التي جمعت البلدين، وخصوصاً منذ العام 1952 عندما افتتح الرئيس كميل شمعون مرحلة التعاون الرسمي، بزيارة قام بها للملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، على رأس وفد رفيع.وما بين هذه السنين الطوال، يحلو للبعض تشبيه زيارة عون اليوم إلى الرياض بزيارة شمعون إليها وما حملته بعدها من تبعات ايجابية على مستوى لبنان.بعد الـ1952، هذا التاريخ الفاصل، تركزت جهود السعودية في لبنان على وقف "حرب السنتين"، هو مصطلح أطلق على المرحلة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية. جهود تعززت من خلال قمة الرياض، التي أدت حينها إلى تشكيل قوات الردع العربية، التي أسهمت فيها السعودية. إلى حين العام 1981، حيث أطلق حينها ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز مبادرة للسلام في الشرق الأوسط، تنتهي بحلّ الأزمة اللبنانية، وهي نفسها المبادرة إلى تحولت إلى "مبادرة فاس" في القمة العربية التي انعقدت في المغرب إثر تبنّيها أخيرا من الدول العربية.إلى حين تشرين الأول من العام 1989، حيث نجحت المملكة بجمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف حيث رعت الاتفاق الذي حمل اسم المدينة. وكان الاتفاق تتويجا لاتفاق سعودي سوري على لبنان، ليأتي بعده بالرئيس رفيق الحريري رئيسا للوزراء في البلاد. هنا دخلت البلاد في مرحلة الحريرية السياسية، والتي ارتبطت إلى حد كبير بالنفوذ السعودي على الأرض اللبنانية لسنوات طوال. وبعدها تعاظمت اسهامات المملكة سياسيا ومالياً، إلى حين اغتيال الحريري في 2005، ليشكل بعد ذلك منعطفاً في العلاقة مع السعودية التي اعتبرت الحادث استهدافا لها أيضاً.
الحريري الابن ولكن علاقة الحريري الابن لم تكن على أحسن حال كما الحال مع المؤسس الوالد. إلى حين قدّم الحريري في العام 2017 من السعودية استقالته من منصبه. ليعلن بعدها وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان بأن السعودية: "ستعامل حكومة لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب مليشيات حزب الله"، ويغادر مواطنوها لبنان. وبعد فترات من الفتور والنأي بالنفس عن الشأن اللبناني، عادت السعودية الى لبنان، وما عودتها الا استئناف لدور المملكة التاريخي في لبنان. واليوم تنعقد الآمال الكثيرة على إعادة التبادل التجاري بين لبنان والسعودية، على الرغم من أنّ هذه الزيارة لن تتعدى كونها مقدمة وربما لن يترتب عنها في القريب العاجل أي مبادرات تجاه لبنان. آمال ترتبط بالكثير من الإصلاحات والشروط المعلنة وغير المعلنة، بما يرتبط برؤية السعودية ومعها أميركا أيضاً للشرق الأوسط الجديد.