منذ سنة 2005 حتى اليوم، أي منذ دخوله عالم السياسة، أجرى السيّد سعد الحريري ما لا يقلّ عن أربعة تحوّلات في مظهره (لوك). غير أنّ الإطلالة على الجمهور بحلل جديدة ليست خاصيّة ينفرد بها الحريري، فالعديد من سياسيّي الصفّ الأوّل أجروا تعديلات على مظاهرهم لكن طبعًا ليس بالقدر الذي فعله السيّد الحريري.
هذا التغيير والتبديل والتحديث في مظهر السياسيّين، لم يترافق مع أيّ تغيير أو تبديل أو تحديث في أداء الأحزاب التي يترأسها هؤلاء. وفي مراجعة تاريخية حديثة، يبدو أنّ التحوّل الأبرز الذي أجرته الطبقة السياسية اللبنانية على مظهرها، جرى عشيّة توقيع اتفاق الطائف حيث خلع رؤساء الميليشيات بزّاتهم العسكرية وارتدوا ربطات عنق متحوّلين من أمراء حرب إلى رؤساء أحزاب، معلنين بذلك الانتقال من مرحلة التحارب إلى مرحلة التحاصص. برز في هذه الفترة تيّار المستقبل كنوع جديد من الأحزاب السياسية الّتي يترأسها الرئيس رفيق الحريري.
منذ ذلك الحين، طرأت إضافتان جديدتان على الحياة الحزبية اللبنانية: الأولى سنة 2005 حيث تمّ تأسيس التيار الوطني الحرّ وعاودت القوات اللبنانية مزاولة نشاطها. والثانية جاءت على أثر انتفاضة 17 تشرين حيث تأسّست عشرات المجموعات السياسية، والتي سيكون الكلام عنها مؤجّلًا لمقال آخر.
مع اكتمال مشهديّة الأحزاب السياسية هذه في لبنان، نعود إلى موضوع أداء هذه الاحزاب الذي قلّما يلقى اهتمامًا في الوسط السياسي والإعلامي. فغالبًا ما يتمّ التعاطي معه من زاوية التحليل السياسي التقليدي الذي يغوص مثلًا في أبعاد خطاب هذا الزعيم، أو المواقف التي يطلقها ذاك، أو إمكانيّة الحشد عند آخر. بيد أنّ الفيل القابع في الغرفة يتمثّل بالدور الذي تلعبه هذه الأحزاب في الحياة السياسية اللبنانية، وما مدى تأثيرها في تطوير هذه الحياة أو ابقائها في أقبية التخلّف والرجعيّة.الأحزاب كـ"شأن خاص" يُنظر في لبنان إلى الأحزاب السياسية ونشاطها وعملها، على أنّها أمر خاص وداخلي للحزب، فتعبير "خصوصيّة" هو من التعابير الرائجة في السياسة اللبنانية، ويحظى على توافق ضمنيّ من قبل جميع الأطراف. ليست خصوصيّة أيديولوجية طبعًا، ولا تمتّ إلى رؤى اقتصادية أو اجتماعية متنافسة (باستثناء الأحزاب الدينية، كحزب الله مثلًا، والأحزاب العقائدية كالشيوعي أو القومي). فالمشكلة في مسألة الخصوصية أنّها تُجهض أيّ نقاش في دور الحزب في الحياة السياسية، وكيفيّة اتخاذ القرار فيه، ومصادر تمويله، وكيفيّة التصرّف بأمواله. وقد يؤدّي هذا الأمر الى تحرير الزعيم- رئيس الحزب، من عبء أي مساءلة، فيصبح الحزب بالتالي أداة في يده يحقّق من خلالها سلسلة من المكاسب، على رأسها تلميع صورته وطرح نفسه من خلال الحزب على أنّه يحارب التقليد والعائليّة والتوريث؛ فيظهر بمظهر أكثر حداثة وعصرنة. كما يمنحه الحزب منصّة أوسع يمكنه من خلالها التوجّه إلى عدد أكبر من الناس التي تنتمي إلى الطائفة أو المذهب أو المنطقة نفسها. فالزعيم- رئيس الحزب في لبنان، ليس رجلًا سياسيًا عاديًا، بل هو قائد وصاحب قضيّة ومتجذّر وذو بُعد تاريخي، إمّا من خلال شخصه مباشرة أو من خلال التوريث. لذلك نلاحظ أنّ الأحزاب اللبنانية تظهر بأبهى حللها خلال مهرجانات ذكرى "الشهيد" أو "الشهداء".
هذه الهمروجة التي صنعتها الأحزاب على مرّ السنوات، أفضت إلى خنق النقاش الذي ذكرناه سابقًا، وأصبح لبنان جرّاءها بلدًا متعدّد الأحزاب بانعدام أداء حزبي بنّاء. وإذا كان مفهوم ودور الأحزاب السياسية قد تطوّر في أوروبا والغرب ليعكس التغيّرات في الفكر السياسي والهياكل المجتمعيّة، فإنّ الأحزاب في لبنان لم تسلك طريق التطوّر هذا، بل استغلّت الانقسامات الاجتماعية، وأسّست حضورها عليها، وساهمت في توسيعها عبر عمليّة استقطاب ممنهجة.نظام الكارتل وإذا ما استندنا إلى ما يقوله علماء السياسة ومنظّروها، فإن الطبقة السياسية في لبنان أرست نظامًا حزبيًا هجينًا يمزج بين عناصر أحزاب النخبة وعناصر أحزاب الكارتل. وتعمل هذه الأخيرة، بحسب صياغة كلّ من ريتشارد كاتز وبيتر ماير لمفهومها، على مستويين:الأول خارجي، أي علاقة الأحزاب بعضها مع بعض. كأيّ كارتل، بحيث تتواطأ فيما بينها من أجل المحافظة على سلطتها عبر الاستفادة من موارد الدولة، وتهميش الدخلاء، والحدّ من المنافسة الانتخابية. هكذا وبتقسيمها لمؤسسات الدولة ووزاراتها ومواردها، تخلق كارتلًا بحكم الواقع. عدا أنّ التوافق على قوانين الانتخابات من قبل هذه الأحزاب (آخرها قانون 2016)، يؤمّن حصص كلّ منها في المجلس النيابي، حيث أنّ نظام التحاصص في لبنان يدفع الأحزاب الرئيسة إلى تشكيل تحالفات غير مستقرّة ولكن مستمرّة. ويقوم نظام الكارتل هذا، على ازدواجيّة يمكن اختصارها بالتعاون والتنافس بين الأحزاب في آن واحد. ولتمتين هذه الازدواجيّة، لا بدّ من إبقاء المجتمع منقسمًا على ذاته، إذ لا يعيش التحاصص إلّا على هذه الانقسامات. وبالعودة إلى لقاء الحريري "بالشارع السنّي" في ذكرى 14 شباط الفائت، كان سيكون "الشارع الشيعي" بعد عشرة أيام منه على موعد مع تشييع السيّدين نصر الله وصفي الدّين، فيما لم تكن قد مرّت أشهر قليلة قبل هذين اللقاءين على تجمّع "للشارع المسيحي" في معراب في ذكرى شهداء القوّات اللبنانية. هذه المشهديّة تختصر، بشكل واضح، كيف أن الأحزاب تتعامل مع بعضها ككارتل، وذلك عبر تعبئة كلّ حزب لشارعه، ممّا يضمن استمرارية "حكم الديَكة".المستوى الثاني الذي تعمل عليه أحزاب الكارتل هو المستوى الداخلي، أي الديناميكيّات داخل الأحزاب نفسها. فدور النشطاء والأعضاء وحتّى المتعاطفين مع الأحزاب، تغيّر من كونه موردًا أساسيًّا وعنصر هويّة للحزب، إلى مجرّد التلاشي كمصدر شبه رمزي لشرعيّة الحزب. فالذين يتمّ تمكينهم ليسوا النخب أو المناضلين، أي الطبقة الأكثر "إزعاجًا"، بل الأعضاء "العاديّين" الذين أصبحوا أكثر انصياعًا لقيادة الحزب.جمهور"الشوارع"ذكرنا سابقًا أنّ الجمهور مقسّم إلى شوارع. وإذا كان "الشارع" هو المكان المفضّل لدى الطفل لأنه يلعب فيه بحريّة وبلا قيود من وجهة نظر بيداغوجيّة، أو يرمز أيضًا إلى الفضاء الواسع الذي تتجسّد فيه العلاقات الاجتماعية بين مختلف المكوّنات من وجهة نظر سوسيولوجيّة، إلّا أنّه من وجهة نظر أحزاب لبنان وزعمائه، فإنّ الشارع هو شوارع، وكلّ واحد منها جدار يُمنع من خلاله الاحتكاك مع الشارع الآخر. خزّان جماهيري تتغذّى منه عبر التعبئة والحقن والتجييش.هنا تلبس الأحزاب لباس أحزاب النخب، ويتمّ التنظيم وفق الولاء للطائفة والقيادة، حيث أنّ مركزيّة القرار قويّة جدًّا والمنافسة السياسية محدودة جدًّا. ويعتمد هذا التماسك الداخلي على شبكات الزبائنية من جهة، وعلى الخوف من الشارع الآخر من جهة أخرى.
هذا النظام الحزبي الهجين الذي أسسته الأحزاب اللبنانية، يظهر جليًّا في ذكرى 14 شباط (وكلّ المناسبات التي تشبهها). فلو لم تكن الأحزاب تنظر إلى الناس على أنّها كتل "شارعيّة"، كيف يمكن لحزب طويل عريض كتيّار المستقبل أن يعتكف عن العمل السياسي لمدّة ثلاث سنوات بمجرّد أن يقرّر زعيمه ذلك؟ وكيف له أن يعود عن اعتكافه على قاعدة "كلّ شي في وقته" والناس تردّ "حلو"! وما ينطبق هنا على السيّد الحريري وتياره و"شارعه"، ينسحب على كلّ السّادة الزعماء؛ كلّهم من دون استثناء. فلقد سقطت مقولة "ما بيشبهونا"، حيث أنّ الكلّ متشابه ويعمل بالعدّة ذاتها.قوة بكيان مستقلبحسب ميشال فوكو، ليست السلطة مجرّد قوّة من أعلى الى أسفل تمارسها المؤسّسات الرسمية والافراد، بل هي شبكة من علاقات القوّة المنتشرة في المجتمع، حيث تولّد هذه السلطة تأثيرات محدّدة وتتجلّى في عدد من الطرق؛ من القواعد المباشرة والقوانين، إلى الممارسات التي تحكم سلوكات الأفراد. هكذا يبدو أنّ الحاسم لعلاقات القوّة، بشكل خاصّ، هو أنّها جزء لا يتجزأ من الأداء الطبيعي وأنها تؤدّي إلى عمليات تطبيع.
في هذا الإطار، تحوّلت الأحزاب السياسية من قوّة دفع باتجاه تكامل الفئات الاجتماعية المتنوّعة من خلال توفير منصّة للحوار، وحلّ النزاعات، والمساعدة في سدّ الانقسامات المجتمعيّة، وتعزيز الشعور بالوحدة الوطنيّة، إلى قوّة دفع معاكسة باتجاه تكريس الانقسامات الطائفية وتكريس الواقع عبر تحويله إلى قوّة تتمتّع بكيانها المستقلّ المنفصل عن قوّة القانون. الامر الّذي يصعّب مهمّة القانون في فرض معادلات جديدة. فإذا تواجهت قوّة القانون مع قوّة التطبيع، ستكون الغلبة للثانية.
والتطبيع هنا يعني قبول بعض الحقائق التي كانت موضوع خلاف في السابق. ففي لبنان مثلًا، يعني هذا قبول ممارسات سياسية ذات طابع طائفي، حيث تتحوّل الأفعال والعلاقات والإجراءات الى ممارسات روتينيّة. وبمجرّد "تطبيعها"، لا يعود يُنظر الى الأنشطة السياسية والاجتماعية على أنّها شاذّة. فظهور الحريري، في هذا السياق، لم يضف شيئًا سوى تعزيز هذا التطبيع مع الخطاب والانقسام الطائفي. وقد أثنت كلّ التحاليل والتعليقات على ضرورة عودته، حيث بدا الشارع السنّي بمرور السنوات، مُحبطًا ومغيّبًا وبأمسّ الحاجة إلى من يعطيه دفعًا جديدًا. لكن في الحقيقة ما كان مُحبطًا هو أنّ الخطاب الذي ارتفعت وتيرته في 17 تشرين، والذي شكّلت المواطنة ونبذ الطائفية أساساته، خفتَ أمام هذا التوزيع الجديد للأدوار، حتّى من قبل وجوه معروفة في 17 تشرين! وما غاب عن التحليلات والتعليقات أنّ شخصيّة مثل نوّاف سلام هي فخر ليس فقط للطائفة السنيّة، إنّما لكلّ مواطن لبناني!
إنّ مقولة الرئيس الحريري الأب "ما في حدا أكبر من بلده" تبقى نظريّة في لبنان، ولم تسلك طريق التطبيق يومًا، وقد ساهمت الأحزاب وزعماؤها في تعميق هذه الإشكالية. فعادةً ما تعمل الأحزاب في كنف الدولة، غير أنّ الدولة في لبنان تعمل في كنف أحزاب الكارتل. إذا ما نظرنا إلى الأحزاب على أنّها مختبرات سياسية، ما هي قيمة الديمقراطية فيها؟ والشفافية المالية؟ واللّامركزية باتخاذ القرارات ورسم السياسات؟
هكذا يصحّ أخيرًا ما قاله الشاعر نزار قبّاني في قصيدة "الدّيك":
"كيف سيأتي الغيثُ إلينا
كيف سينمو القمحُ
وكيف يفيض علينا الخيرُ وتغمرنا البركَهْ
هذا وطنٌ لا يحكمه اللهُ ولكنْ تحكمه الدِّيَكهْ."