كان خيارًا بين سيّئين: أن تمضي الحكومة بالإنفاق على قاعدة الإثني العشريّة، بانتظار تعديل موازنة العام الحالي، كما صاغتها حكومة ميقاتي، ومن ثم مناقشتها وإقرارها في البرلمان. أو أن يتم إقرار الموازنة بمرسوم، طالما أنّ المجلس النيابي لم يناقشها أو يقرّها أو يرفضها ضمن المواعيد الدستوريّة، على أن يتم تعديل الرسوم والضرائب الواردة فيها بمراسيم مُلحقة. فكان أن وجدت الحكومة الخيار الثاني هو الأقل سوءًا، وبذلك بات لدى لبنان موازنة جرى إقرارها في الثلث الأوّل من السنة. هي موازنة "أمرٍ واقع" إذًا، كما تشير لهجة الحكومة عند إقرارها. وبمعزل عن الاضطرارات التي فرضت المضي بهذا الخيار، يمكن القول إنّ هيكليّة الموازنة نفسها توحي أن مسار الإصلاح المالي، المرتبط بالميزانيّة العامّة للدولة، سيكون مؤجلًا، بانتظار العمل على موازنة العام 2025.هيكليّة الموازنة العامّةفي هيكليّتها العامّة، لا تحوي الموازنة على ما يمكن وصفه فعلًا بالتصحيح المالي، إن من ناحية نوعيّة مواردها الماليّة، أو من ناحية أبواب الإنفاق الأساسيّة فيها. ما زالت الضريبة على القيمة المُضافة تمثّل وحدها 56.3% من الواردات الضريبيّة في الموازنة، بينما تشكّل الرسوم الجمركيّة 20.3% من هذه الإيرادات الضريبيّة (نستثني من النسبة هنا الواردات غير الضريبيّة). أي بمعنى آخر، تشكّل الضرائب غير المباشرة، التي تطال محدودي الدخل أكثر من غيرهم (كنسبة من الدخل)، 76.6% من الضرائب التي تراهن عليها الموازنة. في المقابل، لا تشكّل الضريبة على الأرباح والمداخيل، التي تتصاعد بتصاعد قيمة الدخل، أكثر من 12% من الضرائب التي تراهن عليها الموازنة.
بطبيعة الحال، تعكس بنية الموازنة هنا طبيعة النظام الضريبي القائم، الذي يفتقد حتّى هذه اللحظة القدرة على ضمان نسبة تحصيل ضريبي مرتفع. بمعنى أوضح، لم تتخذ وزارة الماليّة حتّى اللحظة كافّة الإجراءات المطلوبة لمكافحة التهرب الضريبي، أو فرض الالتزام الكامل بالضريبة على الأرباح والمداخيل. وهكذا، وتمامًا كحال الدول الأخرى التي تعاني من المشكلة نفسها، ترتفع نسبة الضرائب غير المباشرة من إجمالي التحصيل الضريبي، بالنظر لسهولة استيفائها كنسبة من قيمة السلع المستوردة أو المبيعات. الخيار غير عادل طبعاً، لكنّه نتيجة لواقع مالي قائم.
هنا تبرز إشكاليّة الموازنة الأساسيّة: أنّها أتت من خارج رؤية متكاملة للإصلاح المالي. وهذا ما لا تُسأل عنه الحكومة الحاليّة طبعًا، بقدر ما تُسأل عنه الحكومة السابقة والمجلس النيابي. لكن في جميع حالات، يبقى الاستنتاج نفسه، بخصوص عدم تكامل هذه الموازنة مع مسار تصحيحي فعلي للميزانيّة العامّة.
مراجعة بنية النفقات، تشير إلى الأمر نفسه. إذ لا يزال الإنفاق الجاري يستحوذ على 89.5% من إجمالي نفقات الموازنة العامّة، منه نحو 54.4% على الرواتب والأجور. في المقابل، لا يشكّل الإنفاق الاستثماري، المحفّز على النمو الاقتصادي لاحقًا، سوى 11.5% من إجمالي نفقات الموازنة. وهذه مسألة مستغربة طبعًا، بالنسبة إلى بلدٍ خرج لتوّه من حربٍ ضروس، بما يفرض الإنفاق على إعادة تأهيل البنية التحتيّة.
هنا، تبرز ثاني إشكاليّات الموازنة، التي جرت صياغتها قبل توسّع الحرب الإسرائيليّة على لبنان في الربع الأخير من العام الماضي. ولهذا السبب، لم تلحظ في أبواب الإنفاق فيها الحاجات المستجدة والطارئة التي فرضتها الحرب، كما لم تلحظ الوقائع المتغيّرة التي أثرت على مختلف المؤشّرات الاقتصاديّة العامّة. وهذا ما يفرض على الحكومة الحاليّة طبعاً إقرار ملاحق تعديليّة على الموازنة، لتعديل سقوف الاعتمادات، تمامًا كما ستعمد الآن إلى تعديل الرسوم والضرائب الواردة في الموازنة.
أخيرًا، ثمّة تساؤلات جديّة حول فرضيّات هذه الموازنة. إذ تفترض الموازنة أن يحقق لبنان نموًا بنسبة 1.2% هذه السنة، ليصل الناتج المحلّي إلى حدود الـ 27.8 مليار دولار أميركي. وأن تقتصر نسب التضخّم على نحو 4.5%. أمّا الافتراض الموثوق من بين هذه الفرضيّات، فهو أن يستقرّ سعر الصرف عند مستواه الحالي، أي عند حدود الـ 89,500 ليرة للدولار الأميركي.خياران أحلاهما مرُّالبديل عن إقرار هذه الموازنة، التي لا تحقق شروط التصحيح المالي، كان المضي بالإنفاق على قاعدة الإثني عشريّ.، مع الذهاب نحو مسار سيستغرق أشهر من الزمن، لتعديل موازنة العام الحالي، ومن ثم إرسالها ومناقشتها في البرلمان، قبل إقرارها واعتمادها.
ولهذا الخيار مساوئ لا تقل مرارة عن خيار إقرار الموازنة بمرسوم، كما جرى. فموازنة العام الماضي، هي التي ستحكم الإنفاق على أساس قاعدة الإثني عشريّة. وهذه الموازنة تعاني من اختلالات لا تقل فداحة عن موازنة العام الحالي، التي صاغتها حكومة ميقاتي. بل وتعاني من عيب أهم: عدم واقعيّة سقوف الإنفاق، والإيرادات المقدّرة فيها، والتي تم تقديرها عند مستويات منخفضة للغاية، وهو ما أدّى إلى سياسة ماليّة شديدة التقشّف طوال الأشهر الماضية. ولهذا السبب، كان من شأن اعتماد قاعدة الإثني عشريّة لأشهر من الزمن أن يطيل الشلل القائم في الإدارات العامّة، جرّاء عدم توفّر الاعتمادات المرصودة لها.
وبموازاة ذلك، كان هذا الخيار سينطوي على خلل دستوري. إذ إنّ الحكومة كانت ستتجاوز –لو سارت بهذا الخيار- المهلة المحدّدة في الدستور، للإنفاق على قاعدة الإثني عشريّة، في حين أن الدستور والقوانين حددت مسارًا واضحًا لتفادي هذا التجاوز، وهو إقرار الموازنة بمرسوم مع إمكانيّة تعديلها لاحقًا. بهذا المعنى، يمكن القول إن الحكومة سارت بالخطوات الأقرب لملاءمة روحيّة النصّ الدستوري والقوانين التي تستند إليه.
في جميع الحالات، من المعلوم أن كل هذا النقاش يمكن تخطيه لاحقًا، بعد إقرار خطة التعافي المالي الجديدة. حيث ستتمكن الحكومة بعدها من تعديل نصوص الموازنة أو بنودها الضريبيّة، في ضوء المسار الإصلاحي المحدّد في هذه الخطّة. وهذا ما يفترض أن يستند طبعاً إلى مضمون الاتفاق الذي سيتم التوصّل إليه مع صندوق النقد، بعد التفاوض مع الصندوق.