تجسدت آخر التحولات في المقاربة الدبلوماسية لحقوق الانسان، بنشر صفحة البيت الأبيض منشور يحمل عنوان "باي باي رشا"، وصورة للطبيبة رشا علوية التي أقرت الولايات المتحدة ترحيلها بعد العثور على "صور ومقاطع فيديو متعاطفة" مع الأمين العام الراحل لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في ملف محذوف من هاتفها المحمول، وذلك على الرغم من إصدار قاضٍ أميركي أمراً يمنع ترحيل حاملي التأشيرات الأميركية فوراً، كما وضعت كلمة "ترحيل" على الصورة بشكل كبير.
لغة شعبويةوعادة ما كنا نرى مثل هذه التأطيرات للأشخاص الذي يلقى القبض عليهم بتهم جزائية لا فكرية، مما يمثل سابقة في عهد الولايات المتحدة في طريقة التعاطي مع القضايا الفكرية وحرية التعبير!ونظراً لاستخدام لغة شعبوية لا تتناسب مع خطاب رئاسي بمستوى البيت الأبيض، سارع بعض الناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي الى التشكيك في مصداقية الحساب الرسمي أولاً، ثم بالمنشور كردّ فعل أولية، لكن الحقيقة أن هذا المنشور تم نشره بالفعل من الصفحة الرسمية للبيت الأبيض. يعكس هذا المنشور، التحول الذي شهدته الحسابات الرسمية للولايات المتحدة، حيث أصبحت تشبه الحسابات الشخصية لترامب، تتبع نفس الأسلوب واللغة التي غالباً ما تركز على الحلول السريعة بدلاً من التعمق في قضايا التأثيرات الاجتماعية وحقوق الإنسان.جدل أميركيوأحدث هذا المنشور جدلأ كبيراً بين المتابعين للصفحة وأبرزهم الأميركيين الذين اعتبروا أن مثل هذا المنشور يجرد الطبيبة علوية من دورها الانساني الذي تجلى في علاج المرضى، وذلك نتيجة تعبيرها عن رأيها، فيما يرى البعض بأن سياسية ترامب الحالية تضرب بيد من حديد من أجل تخليص أو (تطهير) الولايات المتحدة من أعباء المهاجرين. والسؤال الأول هنا حول ماهية التهمة الموجهة الى الطبيبة علوية والاستسهال في التعاطي الحقوقية طالما أنّها متعلقة بغير حاملي الجنسية الأميركية، اذ بدا أنّه من السهل إلصاق تهمة جاهزة بمن تريد الولايات المتحدة التخلص منهم، فما هي شروط التعاطف وكيف يمكن اثبات بأن هذا النوع من التعاطف يمثل دعماً "للارهاب". أمّا السؤال الثاني فيدور حول التقليل من شأن الجنسيات الأخرى وتنميط المهاجرين على اعتبار أنّهم لا يقدمون أي منفعة للولايات المتعدة وان يثبت الواقع عكس ذلك.على المقلب الأخر، اعتبر بعض الناشطين بأن هذا المنشور غير مهني و"سفيه" كونه يحط من كرامة الانسان، كما يختزل دوره الاجتماعي في موقف يختلف فهمه بناءً على سياقات متفاوتة وبشكل شخصي وانحيازي بما لا يخدم بالضرورة مصلحة الولايات المتحدة وانما التوجهات السياسية للفئة الحاكمة.وليست قضية رشا علوية الأولى من نوعها اذ أن السلطات الفيدرالية الأميركية اعتقلت الطالب محمد خليل بهدف ترحيله في الأسابيع الماضية على خلفية احتجاجات في جامعة كولومبايا مناضهة لاسرائيل.تحول بسياسة واشنطنتسلط هذه الحوادث الضوء على التحول في سياسة الولايات المتحدة، التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية، لتصبح داعمة للقومية اليمينية وغير مكترثة للديبلوماسية السياسية على اعتبار أن الرابح دائماً على حق وان أخطأ. ويخشى أن تحذو دول أخرى حذو المقاربة الترامبية مما قد يمهد الى فوضى سياسية ويستبدل أدبيات الخطاب بالتحول الى شيفرة تواصل تقوم على مبدأ وسائل التواصل الاجتماعي. الحال أنه منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، تضرب الدبلوماسية التقليدية عرض الحائط لتغدو سياسية ترامب وكأنها في شبه انقطاع مع سياسة الولايات المتحدة السابقة أو الادارات المتعاقبة التي صاغت أبرز الاتفاقيات في العالم كاتفاقية أوسلو، ورَعت أكبر المحادثات الدولية كالمتعلقة بالملف النووي الايراني، أو إنهاء الحرب بين البوسنة والصرب. دبلوماسية القوةوإذا كانت الدبلوماسية تعني فن العلاقات الانسانية من خلال التواصل والتفاوض والتحاور، فإن السياسة الترامبية تعتمد على مبدأ المقايضة الذي يرى في كل قضية سياسية أو اجتماعية هدفاً تجارياً أو ربحياً، على اعتبار أن وجوده على رأس أكبر قوى في العالم يتمثل في انقياده نحو المنافسة الشديدة بدرجة شبيه جداً بدوره المالي كامبراطور السوق العقارية.ناهيك عن حادثة توبيخ ترامب للرئيس الأوكراني زيلنكسي التي لاحقاً تجلت في تمهيد نحو بسط الهدنة الروسية - الأوكرانية، حيث بات يعرف عن ترامب الذي يتماشى سلوكه مع نظرية "الرجل الغاضب دائماً"، بأنّه يرفع السقف عالياً حتى يصل لمنتاه إما عن طريق الضغط أو التخويف ليتراجع حسب نتائج التي يوليها غضبه على الآخرين، وإن أدى ذلك الى تخليه عن وعوده والتي عادةً ما تخرج منه، وخصوصاً عند التوجه الى الدول غير الحليفة، بشكل تهديدات غير مدروسة. وقد يبرر ترامب سلوكه الفظ بحجة أنّه يهدف الى انهاء الحروب وإحلال السلام ولو باللجوء الى القوة، وهذا ما قدمه بمقاربة سوريالية حين تحدث عن ريفييرا غزة التي أراد تحويلها الى أكبر مركز تجاري وسياحي في المنطقة متجاهلاً آلاف الضحايا الأبرياء التي قتلتهم اسرائيل على أرض غزة، مما كاد يؤدي الى أزمة دبلوماسية مع مصر والدول العربية التي عارضت هذا المخطط "الخيالي".