قبل خمسة وتسعين عاماً، ولدت الشاعرة الأوكرانية الثائرة كوستينكو في 19 آذار/مارس 1930 في جمهورية أوكرانيا السوفياتية الاشتراكية، كان والداها معلمَين، في العام 1936، انتقلت العائلة إلى كييف، حيث تخرجت لينا من المدرسة الثانوية، ثم التحقت بمعهد كييف التربوي، وتخرجت منه العام 1956.تعرفتُ إلى أدب لينا كوستينكو عبر كتاب البروفيسور إيهور أوستاش "الأوكران ولبنان" (دار "دوليبي"، 2021)، حيث استعار اسم مجموعتها الشعرية "حديقة المنحوتات التي لا تذوب"، وعنون به أحد فصول كتابه. أثناء انكبابي على ترجمة كتاب أوستاش، أخذني هذا العنوان بعيداً إلى مجموعة كوستينكو الشعرية، ثم إلى سيرتها المليئة بالصراع مع السلطة في ستينيات القرن الماضي، حيث قدّر لهذه الفتاة المتخرجة من الجامعة حديثاً أن تلتحق بكوكبة من الأشخاص الذين تحولوا إلى أساطير في حياتهم. أولئك الذين تُحاك حولهم حكايات غريبة وشائعات يصعب التمييز فيها بين الحقيقة والخيال. أولئك الذين يلتزمون الصمت محافظين على عالمهم الخاص بعيدًا من عيون الغرباء، ولا يسمحون بالدخول إليه إلا للمقربين الموثوقين.هكذا هي لينا فاسيليفنا كوستينكو: شاعرة، كاتبة، وناشطة اجتماعية. ولكن قبل كل شيء، "لينا المرأة". كتبت ذات يوم: "لقد اخترت مصيري بنفسي، ومهما سيحدث لي، فلا لوم لدي على القدر، لأنني اخترته بنفسي"، وظلت طوال حياتها وفية لتلك الكلمات. تحولت لينا إلى أسطورة بسبب دفاعها عن المعارضين في زمن القمع، حيث لم توفر الانتقادات اللاذعة بحق "مثقفي السلطة"، بالتوازي مع اختيارها حياة العزلة الأدبية والعامة، ورفضها العنيد للتواصل مع الصحافة. ربما ببساطة، تعبت مما سمّته ذات يوم "صراع الأنا الكبيرة" فاستحقت أن تكون مختلفة عن الآخرين.كانت لينا كوستينكو واحدة من أوائل الشعراء الأوكرانيين الشباب الذين ظهروا في الخمسينيات والستينيات، وربما كانت أبرزهم، وترددت بوضوح في أعمالها المبكرة المنشورة في مجلة "دنيبرو" آنذاك أصداء انتفاضتها في وجه "تأطير الإنسان وتهميشه وتحويله إلى كائن بدائي". نشرت مجموعتها الشعرية "رحلات القلب" في عام 1961، حيث عززت تألقها وأظهرت النضج الإبداعي الحقيقي لديها كشاعرة، ووضعت اسمها بين أساتذة الشعر الأوكراني البارزين. لاحظ علماء الأدب أنه في مجموعات كوستينكو الأولى يمكننا أن نستشعر العودة إلى الأسس الوطنية، وإعادة التفكير فيها وتجديدها، وارتقاء القيم الإنسانية. فيها تركزت أفكار الشاعرة على مصير الناس الذين اضطروا إلى تحمل الاضطهادات التاريخية الصعبة في سعيهم إلى التحرر، ومع ذلك ظلوا صلبين ولم ينكسروا روحياً."أعرف لغة الحرية، إنها تُنسب إليّ"تجسد الشاعرة الراحلة تاتيانا شمراي في إحدى قصائدها حادثة وقعت في محكمة مدينة لفيف، في نيسان/ أبريل 1966، أثناء محاكمة الأخوين هورين. في ذلك الوقت، وصلت إلى المحكمة وفود من المثقفين الأوكرانيين، من بينهم إيفان دراتش، فياتشيسلاف تشورنوفيل، ميكولا خولودني، ولينا كوستينكو. تقول شامراي: "كان يوم للقضاء/ وهبّت رياح القضاء فيه/ آنذاك نُسيت الوصية، فحُكم على الجميع.../ امرأة منتصبة القامة، فخورة مثل ثورة/ حملت إليه عبر القاعة ورودًا بيضاء".من المؤسف أن تاتيانا شامراي رحلت مبكراً في عز شبابها، لذلك – كما تقول الباحثة الأدبية ناتالكا بوزنياك-خومينكو، يصعب اليوم معرفة ما إذا كانت هذه مجرد استعارة شعرية أم أنها مرتبطة مباشرة بلينا كوستينكو. بالطبع، لم يؤثر حضور المثقفين الوطنيين في الحكم، لكن كان لحضورهم تأثير أخلاقي كبير، سواء بالنسبة إلى المحكومين أو المشاركين في هذه المبادرة. كتب فياتشيسلاف تشورنوفيل في مذكراته عن هذا التحرك العلني الأول: "لينا كوستينكو وليوبوف زاباشتا خططتا لتوثيق الحكم. لكن السلطات انتزعت منهما ما دونتاه بالقوة. كما ألقت لينا كوستينكو الزهور على المحكومين. بالطبع، صودرت الزهور على الفور، واستجوب رجال الأمن لينا كوستينكو في غرفة مجاورة بوحشية، لكن المحاضر الرسمية لجلسة الحكم في تلك المحاكمة السرية ضد من سمّتهم السلطة بالمجرمين الخطيرين، دُمرت بالكامل".في تلك المرحلة الصعبة، بادرت لينا كوستينكو مع إيفان دراتش، فقدما عريضة من كتاب لفيف، فتجمع الكتّاب حول مبنى مجلة "أكتوبر"، لطلب الإفراج عن بوهدان هورين، أصغر المعتقلين سنًا. بعد ذلك، زارها شاب مهذب من "الأجهزة المختصة" ودعاها للتحدث مع الـ"كي جي بي". سألته لينا: "أهذه دعوة أم أمر؟"، فأجاب: "بالطبع، دعوة". فردت: "إذن، اسمح لي بعدم تلبيتها"، وأغلقت الباب في وجهه.وعندما عقد اتحاد الكتاب في أيار/مايو 1966 اجتماعًا لتوبيخ "المنشقين الوطنيين"، وقفت لينا كوستينكو علنًا ودافعت عن المعتقلين إيفان سفيتليتشنيك، أوباناس زاليڤاخا، ميخايلو كوسيڤ، والأخوين هورين، مما أثار عاصفة من التصفيق من قبل الكتّاب الشباب، وأدى إلى وضع السلطات حظر كامل على أعمالها. بعد رسالتها المفتوحة إلى صحيفة "الأدب الأوكراني" (التي لم تُنشر بالطبع) دفاعًا عن تشورنوفيل في عام 1968، اختفى اسمها تمامًا من الصحافة.عملت الشاعرة لمدة ستة عشر عامًا في صمت. كانت صلبة ولم تتنازل عن قناعاتها، وقد ظهر ذلك لاحقًا في روايتها الشعرية "ماروسيا تشوراي". في العام التالي، رشّح مؤسس معهد هارفرد للدراسات الأوكرانية البروفيسور أوميليان بريتساك كلا من لينا كوستينكو وبافلو تيتشينا وإيفان دراتش لجائزة نوبل في الأدب، لكن بحسب وكالة "تاس"، رفضت لجنة نوبل الترشيح بسبب "الدلالات السياسية" وصعوبة إجراء "الفحوص اللغوية المتخصصة".روح التمرّد.. من أين؟من أين أتت هذه الفتاة المثقفة بروح التمرد؟ وما حاجتها بها؟ فقد حضرت ورشة أدبية إبداعية في مجلة "دنيبرو" التي كان يحررها أندريه ماليشكو وتخرجت من معهد كييف التربوي... كما حظيت لينا بفرصة ذهبية، إذ انتقلت للدراسة في معهد غوركي الأدبي في موسكو، وهناك تعرفت إلى شخصيات أدبية استثنائية، ونشرت ثلاث مجموعات شعرية واحدة تلو الأخرى. لماذا لم تكتف بأن تحب، تكتب، وتستمتع بالحياة؟الأمر مختلف مع لينا، فالمجتمع السوفياتي، ألحق بها وصمة "العار" كابنة "عدو الشعب"، بعدما حُكم على والدها، المعلم فاسيلي كوستينكو، الذي كان يتحدث 12 لغة وقاسى مع عائلته تحت الاحتلال النازي، بالسجن لمدة 10 سنوات في معسكرات الأشغال الشاقة، عام 1936. فهي تنتمي إلى جيل أطفال الحرب. نادرًا ما تتحدث عن طفولتها، لكن في قصائدها تظهر أبيات عن "مدرسة الباليه" في الحقول المليئة بالألغام، و"طفولة قُتلت في الحرب". وللحرب قوانينها الخاصة، فخلالها يمكن للمرء أن يرى من يستحق ماذا، وأن يشعر بزيف الأشياء والأفكار بشكل حاد، وتولد لديه رغبة عميقة برفض الخيانة والكذب. يبدو أن هذه البصمة التي تركتها الحرب على روح لينا كوستينكو لازمتها طوال حياتها.في إبداعها الأدبي، أصبحت كتب لينا، مثل "على ضفتي النهر الأبدي" (1977)، و"ماروسيا تشوراي" (1979)، و"التفرد" (1980) ظواهر بارزة في الشعر الأوكراني الحديث. وأضافت إليها الشاعرة دواوين منها "حديقة المنحوتات التي لا تذوب" (1987)، ومجموعة قصائد للأطفال (1987).في أوكرانيا الحديثة، وبعد نيل البلاد استقلالها، ازداد الاهتمام بأعمال لينا كوستينكو بشكل كبير. فقد نفدت مجموعة "الأعمال المختارة" الصادرة عام 1989 على الفور، وانتشرت المقالات عنها، وكتب عنها الكثير من البحوث الأدبية. آنذاك، استغل كثيرون من زملائها – جيل الستينيات - الفرصة وأصبحوا نوابًا في البرلمان. أما هي، فقد أغلقت باب اتحاد الكتاب بقوة وذهبت إلى "منفاها الروحي". علقت على ذلك ببيتين شعريين: "مجددًا يجلسون بجانب السلطة. القبح آت وأنا لست جزءًا منه". كانت علاقتها مع السلطة الجديدة شبيهة بمرحلة الركود، حين حاولوا تجاهلها، ثم حاولوا ترويضها. وعندما أبدى الرئيس ليونيد كوتشما رغبته في منحها "وسام ياروسلاف الحكيم من الدرجة الخامسة" في مناسبة عيد ميلادها السبعين في عام 2000، رفضت الحضور إلى حفل التكريم. قالت: "قولوا لهم إنني لا أحتاج إلى مجوهرات الدولة". كما رفضت أيضًا لقب "بطل أوكرانيا".ولعل الأثر الأكثر بروزاً في سنوات الاستقلال التي سبقت أحداث 2014، تمثل في نشرها نصاً نثريا، وهو عبارة عن رواية حملت عنوان "مذكرات مجنون أوكراني"، في كانون الأول/ ديسمبر 2010. سجلت هذه الرواية رقما قياسياً في المبيعات، حيث نفدت الطبعة الأولى التي بلغت 10 آلاف نسخة في غضون أسبوعين. وقد حدد الناشر إيفان مالكوفيتش موضوع هذه الرواية بأنه النظرة الأوكرانية للجنون العالمي.