يقدم مسلسل البطل جرعة مكثفة من الكآبة والقهر، في قرية يصرخ فقرها وكأنه يستجدي الخلاص. ومع تصاعد التوتر، يلجأ إليها سكان قرية أخرى، هرباً من عمليات عسكرية غامضة، لا يُعرف منفذوها أو دوافعها، بل تحضر فقط بشكل قصف مدفعي يستهدف القرية الجبلية المجاورة.
ورغم أن الطبيعة الخلابة تزين مشاهد المسلسل، إلا أن كل شيء في القرية يبدو كئيباً وقاتماً، يغلفه صقيع البؤس والحرمان، في استمرار لتقديم المخرج الليث حجو في السنوات الأخيرة مسلسلات سوداوية قاتمة، تقوم على الألوان الباهتة كمدخل بصري للحديث عن "الوجع السوري"، وفي القرية تنعدم الخدمات الأساسية من كهرباء ووقود، وتتحول الحياة إلى صراع يومي ضد العزلة والقسوة.ولا يحدد العمل، المقتبس عن مسرحية "زيارة الملكة" لممدوح عدوان، أي إطار زمني واضح للأحداث، لكن ظهور الهواتف المحمولة يوحي بأن القصة تدور في الزمن الراهن، وكأنها تعيد تصوير مأساة متكررة بلا نهاية. ورغم الفقر المدقع، تبدو القرية واحة من التضامن، حيث يستقبل سكانها اللاجئين إليها بروح طوباوية. يفتحون بيوتهم ومدرستهم لمن لجأ إليهم، في مشهد يبدو بعيداً من القسوة المحيطة، وكأنه مقاومة أخيرة للإنسانية ضد الانهيار.وتتجول الكاميرا بين أركان القرية، ترصد حياة سكانها اليومية: ميكانيكي يصلح سيارة متهالكة، مزارع يقطف البرتقال بصبر، وغاسلة الموتى، التي تؤدي دورها الممثلة جيانا عيد، وهي تتهيأ لاستقبال ضحايا الجحيم المحيط. وفي ظل غياب شبه كامل لمؤسسات الدولة، يعتمد السكان على بعضهم البعض للبقاء. كل فرد يحمل ثقلاً من الهموم، ينعكس في خطواته البطيئة وانحناءة ظهره، وكأن المسلسل لا ينقل مجرد قصة، بل شهادة بصرية على واقع يئن تحت وطأة الفقدان والخذلان.وتبدو المنازل ضيقة إلى حد خانق، بالكاد تتسع غرفها لشخص واحد. الجدران العارية من أي نوع من الإكساء تعمق الإحساس بالفقر المدقع، وتخلق جواً خانقاً من الكآبة، يزيده قسوة الشعور بالبرد في ظل انقطاع الكهرباء وغياب وسائل التدفئة. أما الشخصيات، فتتأرجح بين طوباوية مثالية مبالغ فيها إلى حد يفقدها المصداقية، وبين شر مطلق يجعل الحوارات منفرة إلى درجة يصعب تقبّلها. هذه الثنائية الحادة تحرم المسلسل من طبقات رمادية كان يمكن أن تضيف عمقاً إلى شخصياته، ليبدو وكأنه عالم منقسم بشكل حاد بين خير كامل وشر مطلق.على مستوى الإخراج، يقترب العمل أكثر من كونه فيلماً وثائقياً درامياً، يسجل تفاصيل المعاناة اليومية للسوريين الذين ظلوا في مناطق سيطرة النظام. المشاهد الطويلة، وحركة الكاميرا التي تلاحق الممثلين من الخلف أثناء تنقلهم داخل البيوت والشوارع الضيقة، تجعل التجربة أقرب إلى مشاهدة فيلم وثائقي قاتم، أكثر منها دراما تلفزيونية، ويشعر المشاهد تدريجياً بالبرد والحزن.ويؤدي الممثل بسام كوسا دور معلم القرية، شخصية نزيهة ومخلصة، تجسد نموذجاً مثالياً لرجل متمسك بالقانون والمبادئ، ولا يتوانى عن مساعدة الآخرين، حتى أنه يضحي بنفسه لإنقاذ طفل عالق على سطح المدرسة بعد نشوب حريق بسبب سوء التمديدات الكهربائية وتسرب مياه الأمطار إلى الأسلاك. إلا أن هذه اللحظة المفصلية، التي كان يفترض أن تكون مشهداً درامياً مؤثراً، تتحول إلى مشهد متناقض بين التراجيديا والكوميديا غير المقصودة. فبينما يبذل المعلم جهده لإنقاذ الطفل، تقف بقية الشخصيات بلا حراك، وكأنها دمى متجمدة، تراقب بصمت من دون محاولة تقديم أي مساعدة.والمفارقة أن الحدث الدرامي نفسه يبدو مصطنعاً وغير منطقي. السطح، كما يظهر في المشهد، واسع ومكشوف، والجدران إسمنتية، ما يجعل من المستبعد أن تصل ألسنة اللهب إلى الطفل لو بقي في الزاوية البعيدة. ورغم ذلك، يجبر السيناريو المعلم على القفز من سطح المدرسة، في تضحية مبالغ فيها وغير مبررة درامياً، وكأنها مجرد وسيلة لإضافة مأساة أخرى إلى العمل، من دون أن تكون منطقية في سياق الحدث.هذا التوجه يضيف مزيداً من الكآبة إلى جو المسلسل السوداوي، الذي يبدو أنه يحاول تجسيد المجتمع السوري في سنوات الحرب الأخيرة، قبل سقوط الأسد. لكنه، بدلاً من تقديم قراءة عميقة للواقع، يغرق في سوداوية متكررة ومفتعلة، تخلو من اللحظات الإنسانية التي كان يمكن أن تضفي بريقاً وواقعية على هذا العالم المتهالك، علماً أن الليث حجو قدم النمط نفسه في مسلسلات مثل "الندم" التي كانت محاولة لإلقاء اللوم على السوريين في بؤسهم وثورتهم بدلاً من نقد السلطة الحاكمة، التي إلى جانب إجرامها وسياساتها التي تنتهك حقوق الإنسان، كانت أيضاً تحرص على نشر البؤس اقتصادياً واجتماعياً بين السوريين.وفي المسلسل، تبدو الدولة عاجزة تماماً عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات، فيما يواجه النازحون الذين لجأوا إلى القرية مصيراً أقسى بعد احتراق المدرسة التي كانت تؤويهم، من دون أن يجدوا من يمد لهم يد العون. ويرسخ المشهد صورة العزلة واليأس المطلق، حيث لا جهة قادرة على التدخل لإنقاذ الوضع.أما الكاتب رامي كوسا الذي تمت الاستعانة به في السابق لإضفاء نفَس تشبيحي على مسلسلات لم تحظَ بموافقة الرقابة السورية، فلا يترك أي نافذة صغيرة للأمل، يُغرق المسلسل في سلسلة متواصلة من الأحداث المأسوية، من دون أن يقدم للمشاهد لحظة واحدة يمكن أن تشكل متنفساً وسط السواد الحالك. ورغم تزايد المصائب، فإن التصاعد الدرامي يكاد يكون غائباً، بل تتوالى النكبات من دون تطور فعلي في الحبكة، ما يجعل الأحداث تدور في حلقة مفرغة من البؤس.يقدم المسلسل صورة مكثفة للمشاكل الاجتماعية والخدمية التي يعانيها السوريون بشكل عام، لكنه يفعل ذلك ضمن الإطار المحدود لقرية صغيرة، متجاهلاً إلى حد كبير الحرب السورية نفسها، رغم أن القصف المدفعي المستمر يستهدف القرية المجاورة.
ورغم ذلك، تبدو القرية المستهدفة وكأنها مجرد بقعة غامضة في الخلفية، فلا نعرف من يقصفها ولماذا، كما أن عدد المنازل في المَشاهد محدود جداً، ما يجعل يثير تساؤلاً: مَن يقصف هناك؟ ولماذا؟ وما الذي يجري فعلاً في الجهة الأخرى؟ وكأن المسلسل يقدم الرواية الرسمية للأحداث السورية حيث تغيب روايات الأشخاص الذين يتعرضون فعلياً لقصف النظام السوري، وتصبح القصة الحقيقية التي يمكن أن توصف بالسوداوية، أي القرية المقصوفة، قصة جانبية تشكل الخلفية للبؤس المفترض في القرية.ووسط العالم المشحون بالسوداوية، تبدو غالبية الشخصيات إما مبالغاً في مثاليتها أو مسطحة بشكل كارتوني، إلا أن صاحبة صالون التجميل تشكل استثناءً نادراً، فما زالت تهتم بنفسها، وترتدي الكعب العالي، وتضع مساحيق التجميل ولا تنسى تسريح شعرها. رغم قلة مَشاهدها، إلا أنها الشخصية الوحيدة التي تبدو واقعية، متصالحة مع قسوة الحياة، قادرة على التأقلم مع الظروف بدلاً من الاستسلام للمأساة المطلقة. وفي أحد المشاهد، تلخص فلسفتها في الحياة بجملة مباشرة: "إذا كنت تريد أن تعيش بسلام، فتجاهل كل ما يحدث حولك".ولا يمكن تحديد الحبكة الأساسية التي يدور حولها المسلسل، إذ يقتصر السرد على تصوير الحياة الاجتماعية المتهالكة، وانعدام الخدمات، والفقر المدقع في القرية، وهي أمور باتت واضحة منذ الحلقة الأولى. أما التفاصيل الأخرى، مثل العلاقات الاجتماعية أو قصص الحب، فتبدو هامشية تماماً أمام هذا الواقع المأسوي، وكأنها لا تملك أي وزن درامي حقيقي.أما الحرب، فتبقى مجرد خلفية باهتة للأحداث، لا تشكل محوراً رئيسياً في السرد، وكأن الشخصيات لم تعد تكترث لها، بعدما غمرها الفقر والمآسي اليومية. هذا التغييب المتعمد للصراع العسكري يتماهى مع النهج الذي سعى النظام السوري إلى ترسيخه على مدار السنوات الـ14 الماضية، حيث أغرق الشعب في البؤس والفقر، ليس فقط كنتيجة للحرب، بل كأداة عقاب وإذلال لمن تجرأ على الثورة ضده.وربما يكون المشهد الأكثر تعبيراً عن واقع القرية وشعور أهلها هو لتجمّع تلامذة المدرسة في الباحة، يقفون في صفوف منتظمة ويرددون بصوت رتيب شعارات الصباح: "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، أهدافنا: وحدة، حرية، اشتراكية". بينما يقف المعلمون في الشرفة المقابلة، يراقبون المشهد بعيون يملأها البؤس، وكأنهم يتمنون الاختفاء، وكأن الشعارات التي تُردد منذ عقود لم تعد تعني شيئاً في واقع يغرق في الفقر وانعدام الأمل.لكن اللحظة الدرامية الأهم تأتي عندما يسمع التلاميذ أن شاحنة مساعدات من الهلال الأحمر وصلت إلى القرية، فيتلاشى فجأة كل النظام والانضباط، وتترك الشعارات خلفهم بلا اكتراث، ويهرعون مسرعين خلف الشاحنة، وكأنها الأمل الوحيد الذي تبقى لهم، في رسالة واضحة لم تُلفَظ حرفياً "تسقط الشعارات".ورغم أن أهل القرية يعيشون تحت سلطة الدولة، إلا أن هذه السلطة فقدت هيبتها تماماً، ولم يعد هناك خوف حقيقي من الدولة، بل فقدت قدرتها على الإقناع والتأثير، فرجل الدولة الوحيد في القرية، الذي يفترض أن يكون ممثل النظام، يبدو أقرب إلى مهرج، وجوده عبثي ولا يحترمه أحد أو يأخذ خطابه على محمل الجد، ليصبح مجرد ظل باهت لنظام بأدوات بالية، وسزلطته قائمة فقط على وَهم القوة، في مجتمع أنهكته الحرب وأفقدته حتى الرغبة في المواجهة ويصبح البطل (بسام كوسا) الشخص الوحيد المؤثر، لأنه يمثل "الإنسانية" في العمل ككل.