عند الساعة السابعة صباحاً، استقليتُ الحافلة إلى دمشق للمرة الأولى، محملةً بقراءات تاريخية عن أبوابها العتيقة، وبذكريات دافئة يرويها لي والدي، الذي عاش هناك ذات يوم في بيت عربي بنوافذه المطلة على نافورة، بالقرب من كنيسة حنانيا.
لطالما شغلتني فكرة الباب، هذا الحد الفاصل بين الداخل والخارج، بين المجهول والمعلوم. أحببت الأبواب التي تفتح ذراعيها مرحبةً بزوارها، بلا حواجز خشبية تُغلق في وجوههم. تمامًا كما ذاك الباب الأثري الذي اعتدتُ اجتيازه في طفولتي، حين كنتُ أصعد إلى القلعة التي تعتلي قريتي، فأشعر أنني لا أعبر مجرد بوابة حجرية، بل أدخل إلى الحياة نفسها.وها أنا أقف أمام باب شرقي، أحمل حقيبتي الصغيرة وأحدق في هذا الباب المهيب، الذي لم يكتفِ بأن يكون مجرد مدخل، بل منح اسمه لمنطقة بأكملها، بل وذُكر في كتب التاريخ والديانات.أحاول أن أستوعب تفاصيله، أن أحفر ملامحه في ذاكرتي: ثلاث فتحات أو أقواس، قوس مركزي شاهق كان في الماضي ممراً للعربات، وتحول اليوم إلى منفذ لعبور السيارات، يحيط به قوسان جانبيان يضفيان على المشهد توازناً معمارياً بديعاً. إنه ليس مجرد باب، بل شاهد حجري على تاريخ مدينة عتيقة تنبض بالحياة.على أنقاض باب الشمسقبل أن تعبر هذا الباب، عليك أن تدرك أن حياتك لن تكون كما كانت بعده. باب شرقي، الذي بُني بشكله الحالي في عهد الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس واستُكمل في عهد كركلا بين القرنين الثاني والثالث الميلادي، قام على أنقاض باب الشمس الذي يُقال إن اليونانيين شيدوه قبله. لكن العبور من خلاله ليس مجرد انتقال مكاني، بل أشبه بدخول عالم آخر، حيث تمتزج العصور في مشهد واحد، فتتداخل المحال التجارية بالأبنية الأثرية، وتصطف محلات التحف والأنتيكات للسياح بجوار الحانات العتيقة، وكأنك تخطو داخل مدينة من العجائب.في إحدى زوايا هذا العالم، تقبع حانة أبو جورج، مساحة لا تتجاوز بضعة أمتار، لكنها تحمل بين جدرانها تاريخاً يمتد لستة عقود. هنا، شربتُ كأسي الأول، وتركتُ كغيري بصمة على جدرانها بخط اليد، كما فعل السوريون منذ الستينات، حين بدأوا بحفر حكاياتهم على جدرانها، بين نخب حب أو خلاف سياسي أو ثرثرة عابرة. كان مالك الحانة أحد أبرز معارضي النظام البائد، فشهد المكان اعتقالات متكررة، وجلسات سياسية ساخنة، جمعت بين آخر صعاليك دمشق باسم صباغ، والروائي الراحل خالد خليفة، ورجال طاعنين في السن، بين مؤيد للثورة وشاتم لها، ومخبر يتنصت في الزاوية.لم يكن غريبًا أن تُغلق الحانة وقتها بالشمع الأحمر بعد أيام قليلة. لكن ما لم يحسبه النظام أن ذاكرة المكان كانت أقوى من سلطته، إذ تضامن رواد الحانة مع ذكرياتها، ومع انتمائهم إلى دمشق التي كانت تسكنهم أكثر مما سكنوها. وحين أُعيد افتتاحها، عاد إليها زوارها كمن يستعيد جزءًا من روحه.وحين سقط النظام، جاء أحدهم بعد 12 عامًا من الغياب، وكتب على الجدار: "بعد 12 سنة غياب، اكتشفت قديش بحبك يا شام يا حرة".حرية مؤقتة...لم يكن سقوط النظام بالنسبة لأهالي باب شرقي مجرد لحظة فرح، بل كان إيذاناً بفجر جديد تحرروا فيه من سنوات القمع والابتزاز. هذه المنطقة، التي عانت طويلاً من فرض إتاوات ضخمة على أصحاب المحال من قبل شرطة النظام البائد، وتعرضت لمحاولات ممنهجة لإجبارهم على بيع ممتلكاتهم ضمن مخطط لتغيير هويتها وتشييعها ، وجدت نفسها ليلة أمس أمام مشهد يحمل تناقضات صارخة.بعد الاحتفالات الصاخبة التي عمّت شوارعها، حيث وزّع أصحاب الحانات الكحول مجاناً احتفاءً بالسقوط، جاء القرار الصادم: إغلاق معظم المحال بالشمع الأحمر بحجة عدم امتلاكها رخصة لبيع الكحول. المفارقة أن هؤلاء التجار، الذين كانت الحكومة السابقة تجبرهم على دفع ضريبة تقديم الكحول سنوياً، وجدوا أنفسهم اليوم محرومين من ذات النشاط الذي كانوا يُلزمون بالترخيص له قسراً. حتى الحانات التي يعود تاريخها إلى أكثر من سبعين عاماً لم تسلم من التشميع رغم امتلاكها تلك الرخص النادرة، ما جعل القرار مثار جدل واسع.بحسب روايات أصحاب الحانات لـ"المدن"، دخل موظفون من المحافظة ومكتب عنبر ورجال من الهيئة إلى الحانات، وأمروا بإخلائها من الزبائن، قبل أن يُختم بابها بالشمع الأحمر، في مشهد يذكّر بأساليب النظام الذي أطيح به للتو.لكن ما فجّر الغضب لم يكن الإغلاق بحد ذاته، بل ما تلاه. فقد تضامن شباب القصاع وباب توما مع أصحاب المحلات بعد أن تعرضوا سابقا لاستفزازات من سيارات الدعوة التي بدأت تجوب أحياءهم، مما دفع المحافظ إلى التراجع عن قراره تراجعا مبدئيا خوفاً من تصعيد قد يتحول إلى انفجار شعبي.ومع ذلك، لا تزال حالة الإحباط تسود بين أصحاب المحلات وعمالها وروادها، الذين يرون في هذه الخطوة محاولة لاغتيال جزء من هوية المدينة، حيث تدور الأحاديث اليوم عن شروط جديدة يُخطط لفرضها قريباً من قبل المحافظة على محال باب شرقي وباب توما، تتناقض مع الوعود بعدم المساس بالحريات العامة.وسط هذا المشهد المشحون، تتصاعد المخاوف من انتقال المنطقة من مرحلة "تشييع المكان المسيحي" إلى "أسلمته"، خصوصاً مع المضايقات المتكررة التي لم يسلم منها حتى أشهر بائع سندويش في المنطقة، ذاك الذي يختتم الساهرون لياليهم بتناول وجباته أمام محله، والذي لم يجد وسيلة للبقاء سوى فتح محله ليلاً ونهاراً، في مواجهة همسات مشبوهة من المارة، أحدهم قال ساخراً: "هنا يأكل النصارى لحم الخنزير".نكبة النصارىتحمل كلمة "النصارى" في الذاكرة السورية أصداء حقب مظلمة، تذكرنا بفصولٍ من العنف الدامي الذي طال أبناء الطوائف المسيحية في البلاد. في مثل هذه الأيام قبل 161 عاماً، وتحديداً في 9 تموز (يولية) عام 1860، شهدت دمشق القديمة واحدة من أفظع المجازر الطائفية التي لطّخت تاريخ المدينة.اندلعت الفتنة في حي باب توما وبعض أزقة حي القيمرية، لتتحول إلى مذبحة مروعة راح ضحيتها نحو خمسة آلاف مسيحي خلال أسبوعٍ دامٍ، من أصل 22 ألفاً كانوا يقطنون داخل أسوار المدينة. على مدار سبعة أيام بلياليها، اجتاحت الفوضى شوارع دمشق، حيث تعرض المسيحيون لأبشع الانتهاكات التي كسرت كل المحرمات ودنّست المقدسات، في مشهدٍ لا يزال يثير التساؤلات حول جذوره وأسبابه ودوافعه.بحسب الروايات التاريخية، قدم مجموعة من الفتيان إلى الحي المسيحي، وبدأوا برسم الصلبان الحمراء على الأبواب والشوارع، وإطلاق الشتائم والصراخ الاستفزازي. وعندما اشتكى الأهالي إلى الوالي العثماني، تم اعتقال الفتيان ومعاقبتهم بإجبارهم على تنظيف الشوارع. لكن المشهد تكرر في اليومين التاليين، وبدأ ذوو الفتيان بتحريض العامة، مرددين هتافات طائفية مثل: "يا مسلمون، يا أمة محمد، المسلمون يُجبرون على تنظيف حارة النصارى!"تصاعد التوتر سريعاً، وسرعان ما تحوّلت الهتافات إلى نداءات انتقام، فانطلقت جموع مسلحة بالمسدسات والسيوف والفؤوس من الأحياء المجاورة نحو الحي المسيحي. ومع بدء الهجوم، انسحبت القوات العثمانية التي كانت تحرس المنطقة، تاركةً السكان العُزل يواجهون مجزرة مروعة قضت على نحو ربع المجتمع المسيحي الدمشقي.وسط هذا الجنون الدموي، برزت مواقف بطولية من أسر مسلمة فتحت أبوابها لحماية جيرانها المسيحيين، في مقدمتهم الأمير عبد القادر الجزائري، الذي لعب دوراً حاسماً في إنقاذ المئات من الموت المحتم. كما ساهم وجهاء من عائلات دمشقية مرموقة، مثل المهايني، الموصلي، العمادي، النوري، والعابد، في إيواء الفارين وتأمين خروجهم من المدينة كما يؤرخ الباحث السوري سامي المبيض في كتابه الأحدث "نكبة نصارى الشام: أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860"، حيث كتب في مقدمته: "ها نحن نعود إليها اليوم لدراستها بعمق، ليس نبشاً لماضٍ أسود بهدف التحريض، بل لنتعلم منه، أملاً في ألا يُعاد أبداً".ينتقد المبيض حالة التعتيم الرسمي التي أحاطت بهذه المجازر، مشيراً إلى أن الرواية التاريخية غالباً ما تلقي باللوم على الدولة العثمانية أو القوى الأوروبية، بينما يتم تجاهل دور بعض سكان المدينة أنفسهم في ارتكاب الفظائع.إن تجاهل هذه الحقبة في المناهج الدراسية والسرديات الوطنية يعكس أزمة في مواجهة الماضي، ويطرح تساؤلات حول قدرة المجتمع على استخلاص الدروس من تاريخه، بدلاً من دفنه تحت ركام النسيان.سيناريو يعيدنا إلى مجازر مماثلة شهدها الساحل السوري في زمن ليس ببعيد... لكن المجازر لا تستهدف الأجساد فقط، بل تمتد لتغتال الذاكرة، الأمكنة، والروح. لا تقتلوا ما تبقى منا بعد أن عبث به النظام البائد. دعونا نتنفس الحرية التي رُويت بدماء الشهداء، وتذكروا لونها القاني قبل أن تختموا المشهد بالشمع الأحمر. لنبتعد عن الشحن الطائفي والمذهبي، ونمضي معاً نحو بناء هوية وطنية حقيقية ومجتمع عصيّ على الاختراق.