عند خروجها من منزلها، بوغتت طالبة الدكتوراة التركية رميساء أوزتورك، في جامعة تافتس الأميركية، بأفراد ملثمين يرتدون ملابس مدنية، شرعوا في نزع حقيبتها وتقييد يديها بالأصفاد وراء ظهرها قبل أن يقتادوها إلى سيارة لينطلقوا بها إلى جهة ظلت غير معلومة لبعض الوقت. الجيران الذين هرعوا إلى النوافذ على وقع صراخها، صوّروا ما حدث بهواتفهم، ظناً أنها تتعرض لعملية خطف واتصلوا بالشرطة. لاحقاً، اتضح أن أوزتورك التي ظلت في وضع يشبه الاختفاء القسري لساعات، كانت واحدة من ضحايا الحملة التي تشنها إدارة دونالد ترامب على طلاب الجامعات الأجانب ممن شاركوا في الاحتجاجات ضد الحرب في غزة خلال العام الماضي.
يضاف اسم أوزتوك إلى لائحة الطلاب المستهدفين التي تزداد طولاً مع الوقت، وذلك إلى جانب الطالب الفلسطيني محمود خليل الذي ما زال رهن الاعتقال، والطالبة الكورية الجنوبية في جامعة كولومبيا يونسيو تشونغ، التي اختفت بعد محاولة لإلقاء القبض عليها، ومامودو طال الطالب في جامعة كورنيل، حامل الجنسيتَين الغامبية والبريطانية، وهو تلقي رسالة من وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك التابعة لوزارة الأمن الداخلي تطالبه بتسليم نفسه. وكذلك بدر خان سوري، طالب ما بعد الدكتوراة في جامعة جورج تاون، وهو هندي الجنسية ومتزوج من فلسطينية من غزة تحمل الجنسية الأميركية، وكان قد تم القبض على سوري من بيته مطلع الشهر الجاري، قبل شهور قليلة من انتهاء صلاحية إقامته الدراسية في الولايات المتحدة.في أيار/مايو 1968، أسقط طلاب الجامعات والعمال، الديغولية في فرنسا. أرسلت الثورة التي شهدت احتلال الطلاب للجامعات والمؤسسات العامة، موجات من الاضطراب عبر العالم الغربي. بعد ذلك بعامين، وفي جامعة "كنت ستايت" الأميركية، فتحت قوات الحرس الوطني النار على تظاهرة سلمية ضمت طلاباً معارضين للحرب في فيتنام، وسقط أربعة قتلى وتسعة مصابين. وعلى أثر تلك المأساة، شهدت الجامعات الأميركية أوسع حركة تمرّد في تاريخ التعليم العالي تحت شعار "لن يستطيعوا قتلنا جميعاً"، حيث اجتاحت المظاهرات الجامعات بشكل يومي وأضرب أربعة ملايين طالب عن الدراسة. وعلى تلك الخلفية، كانت بداية عقد السبعينيات نقطة البداية لعميلة بطيئة وغير مباشرة لنزع الراديكالية عن الأكاديميا الغربية.تستكمل إدارة ترامب ما بدأته الإدارة الديموقراطية السابقة، على خلفية حملة التضامن التي نظمها طلاب الجامعات الأميركية مع غزة، وهي على الأغلب الحركة الأكثر زخماً ضد الحرب الإسرائيلية على القطاع. ومع أنها عجزت عن التأثير في مجريات الحرب، إلا أن أصداءها خارج الولايات المتحدة كانت منبئة بحراك كوكبي واسع قيد التشكل، بعد انتشار الاحتجاجات والاعتصامات في عشرات الجامعات حول العالم. برعاية إدارة بايدن، اقتحمت قوات الشرطة والحرس الوطني، باحات الجامعات، وفضت الاعتصامات بالقوة، وألقي القبض على آلاف الطلاب والأساتذة الجامعيين. وفي حالة واحدة على الأقل، سجّل إطلاق قوات الأمن للرصاص الحي على سبيل الخطأ. وبضغط من الكونغرس والمانحين الأثرياء، أُرغم عدد من رؤساء الجامعات على تقديم استقالاتهم، كما فُصِل عشرات الطلاب بشكل نهائي، ونُشرت لوائح تضم أسماء الطلاب المشاركين في الاحتجاجات لملاحقتهم بعد التخرج. (طلاب "ستوني بروك من أجل العدالة في فلسطين" يعتصمون في مبنى الإدارة في جامعتهم بنيويورك- Getty)من جهتها، تستهدف إدارة ترامب النقطة الأكثر هشاشة في النظام الجامعي، أي الطلاب الأجانب، والملونين منهم على وجه التحديد، وذلك بهدف استكمال عملية تقويض الحقل الأكاديمي بكامله التي بدأت قبل وقت طويل. يمثل طلاب الدراسات العليا الملونين هدفاً نموذجياً لتقاطع رهاب الأجانب مع معاداة النخبوية - وهما السّمتَان المميزتان لخطاب اليمين الأميركي. ويمثل الطلاب الأجانب في الجامعات الأميركية، والبالغ عددهم أكثر من مليون طالب، حوالى 6% من طلاب التعليم العالي في البلاد. لكن نسبتهم في الدراسات العليا أعلى بكثير، إذ يصل عددهم إلى نصف المليون طالب، يمثلون حوالى سُدس الطلاب. هكذا، يظهر أن استهداف الطلاب الوافدين لا يؤثر في هوامش النظام الجامعي، بل يترك بصمته على نسبة معتبرة من المشتغلين في تحصيل المعرفة الأكاديمية وإنتاجها في الولايات المتحدة. منذ عقد الثمانينيات، بدأت السياسات النيوليبرالية في التغلغل داخل الأكاديميا الغربية، انطلاقاً من جامعات أميركا الشمالية وبريطانيا، ولاحقاً الجامعات الأوروبية. كان الهدف هو تحويل الجامعات إلى مؤسسات تعمل بمنطق الربحية. ومع تقشف الموازنات والدعم الحكومي، أصبحت معدلات "الإنتاج" وجداول التصنيف الجامعي المرتبطة بالمؤشرات الكمية للنشر والأبحاث وأهلية التوظيف في سوق العمل، هي معايير التنافس الأكاديمي. وبالتوازي، هيمن عدد قليل من شركات احتكارية على مجال النشر العلمي، وشهدت أقسام الإنسانيات تراجعاً كبيراً ومتواتراً في الجامعات الغربية لمصلحة تضخم الأقسام التقنية والأعمال والإدارة. ومع زيادة أعباء هيئات التدريس تحت ضغط التنافسية في السوق الجامعي، عانى الأكاديميون وطلاب الدراسات العليا، هشاشة أوضاعهم المهنية غير مستقرة، بفعل العقود المؤقتة والمِنَح قصيرة الأجل. وبالمنطق نفسه، تتجاوز هجمات إدارة ترامب، الطلاب الأجانب، لتشمل منظومة التمويل الجامعية. فسحبها لتمويل فدرالي بقيمة 400 مليون دولار من جامعة كولومبيا، دفع الجامعة للخضوع للإملاءات السياسية، بما في ذلك وضع قسم دراسات الشرق الأوسط تحت إدارة جديدة، ومراجعة مناهج القسم، وتوسيع قسم الدراسات اليهودية، إضافةً إلى عدد من الإجراءات الأمنية المعنية بالتضييق على الاحتجاج داخل الجامعة. وفي ظل تلك الحلقة الأخيرة من الحرب على الأكاديميا، لا يبدو أن إدارات الجامعات وطلابها يملكون خيارات سوى الانحناء أمام العاصفة.