يتصاعد مناخ الضبابية والفوضى بانتظار أن تتكشف أجندة الولايات المتحدة في العلاقات التجارية العالمية والمصالح الاستراتيجية. ويبدو من الواضح سعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى كسر النموذج السائد في اتفاقيات التجارة الدولية عبر خلق ازمات جديدة. فبدل ان نتطلع إلى قنوات حوار هادفة وإلى تعزيز التعاون الدولي لإيجاد حلول للأزمات التي يعاني منها العالم، نغرق في قضايا قديمة متجددة تزداد تعقيداً في ظل التطور التكنولوجي المتزايد.
رسوم بمليارات الدولارات ستهزّ التجارة العالمية، حيث هدّدت واشنطن بفرض رسوم تطال 83 في المئة من سفن الشحن العالمية. وتهدف خطة الرسوم هذه إلى إعادة إحياء صناعة السفن الأميركية، في وقت تنتج فيه الصين أكثر من 50 في المئة من سفن الشحن العالمية، بينما لم تنتج الولايات المتحدة سوى 0.01 في المئة منها فقط العام الماضي. ولهذه الرسوم تداعيات على العديد من الخطوط الملاحية وقد تؤدي إلى ارتفاع كبير بتكاليف الشحن.
فهل تحقق الرسوم الجمركية والحروب التجارية أهداف ترامب التي تتمثل وفق تصريحات فريقه الاقتصادي بتعزيز الاستثمارات والإنتاج الاميركي، وإعطاء الأولوية للانتاج الصناعي المحلي، وحماية اليد العاملة الأميركية وحماية الاقتصاد والأمن القومي من أية تهديدات خارجية؟
فاتورة باهظة قد يدفعها العالم، وصفتها رئيسة منظمة التجارة العالمية في تصريحاتها خلال منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس في وقت سابق هذا العام بالـ "كارثية"، لأنها تعيد الاقتصاد العالمي إلى حيث كان في العام 1930 بين الحربين العالميتين، وتؤدي إلى تراجع كبير في الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

الاتفاقيات الدولية
ترتبط دول العالم بالعديد من الاتفاقيات التجارية الناظمة للعلاقات التجارية فيما بينها وهناك ثلاثة أنواع من الاتفاقيات التجارية الدولية. يتمثل النوع الأول في الاتفاق أحادي الجانب الذي يحدث عندما تقوم دولة ما بفرض قيود تجارية من دون أن تقوم دولة أخرى بفرض قيود مماثلة. ويمكن لدولة ما وفقًا لهذا النوع أن تقوم بتخفيف القيود التجارية، إلا أنه أمرٌ نادر الحدوث، لأنه لا يشكل ميزة تنافسية بالنسبة لهذه الدولة.
لكن هذا النموذج قد تطبقه الولايات المتحدة والدول المتقدمة كنوع من المساعدات الخارجية لبعض الدول، والهدف منه مساعدة الأسواق الناشئة على تقوية صناعات معينة، مما يساهم في نمو اقتصادات هذه الدول، وخلق أسواق جديدة لشركات التصدير الأميركية.
أما النوع الثاني فيتمثّل بالاتفاقيات الثنائية بين دولتين، حيث تتفق دولتان على تخفيف القيود التجارية مثل خفض الرسوم الجمركية لزيادة الفرص التجارية بينهما، وهي شائعة في صناعات إنتاج السيارات والنفط والأغذية.
بينما يتمثل النوع الثالث في الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، والتي تكون بين ثلاث دول أو أكثر لذلك فهي أكثر الاتفاقيات صعوبة في التفاوض، وكلما زاد عدد المشاركين فيها زادت تعقيداتها، لأن لكل بلد احتياجاته وطلباته الخاصة. لكن بمجرد الوصول إلى تفاوض ملائم لجميع الأطراف، تكون الاتفاقية قوية وتغطي مساحة جغرافية كبيرة، مما يمثل ميزة تنافسية خاصة للمشاركين بها.

هل انتهى أكبر تحالف تجاري؟
أما اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" التي تعدّ أكبر اتفاقية متعددة الأطراف، فإنها تجمع بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، تم التوقيع عليها عام 1992 ودخلت حيز التنفيذ عام 1994، وخلقت أكبر تحالف تجاري في العالم. ثم عُدّلت في العام 2018 أثناء ولاية ترامب الأولى وتم التوصل إلى نسخة جديدة من الاتفاقية طبّقت في عام 2020.
ومن المعروف أن أيّ اتفاقية لا تنطوي فقط على مزايا إيجابية، بل لها آثارها السلبية. وهذه الاتفاقية التي ساهمت بتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر بين الدول الثلاث وضاعفت حجم التبادل التجاري، تسببت أيضاً بفقدان مئات الآلاف من الوظائف.
بالنسبة للمكسيك، لم تكن لها فوائد اقتصادية مهمة، كما لم تسهم بتحفيز النمو الاقتصادي، لا بل أضرت بالمزارعين ودفعت بنحو مليون ونصف المليون مزارع خارج سوق العمل. كما تظهر الدراسات أن الشركات الأميركية العاملة في المكسيك لم تراع الشروط البيئية، لا بل سخّرت البيئة بهدف خفض النفقات وتحقيق انتاجية أعلى.
لكن على الرغم من السلبيات الكثيرة، يُنظر إلى تلك الاتفاقية على انها شكلت دعماً مهماً للدول الثلاث في وجه المنافسة الصينية والاوروبية.
من جهة ثانية، تحصل الولايات المتحدة بموجب الـ "نافتا "على إمدادات النفط من المكسيك بأسعار مخفضة، مما يجعلها أقلّ اعتماداً على مصادر الطاقة من الدول العربية. وعندما نقول اسعار طاقة مخفضة، فهذا يعني تكلفة معيشة أقلّ.
فهل أجندة الرئيس الأميركي الحالية هي بداية نهاية الـ"نافتا"؟
في الردود الأولية على الرسوم الجمركية، اعتبر رئيس وزراء كندا مارك كارني أن العلاقات التي كانت تربط الولايات المتحدة ببلاده قد انتهت.
أما من الجانب الأميركي، فقد أشاد اتحاد العمال بقرار ترامب الذي فرض رسوماً قدرها 25 في المئة على كافة السيارات غير المصنعة في الولايات المتحدة، معتبراً أن الطبقات العاملة قد تضررت بشدة على مدار عقود من اتفاقية التجارة الحرة ومن المنافسة مع اليد العاملة الأقل تكلفة في المكسيك. هذه الرسوم ستدخل حيز التنفيذ في الثالث من نيسان القادم وقد تدفع وفق تقديرات اولية إلى قفزة في اسعار السيارات المستوردة تصل إلى 12500 دولار في سعر السيارة الواحدة.

تحديات اقتصادية متزايدة
وفي حين تشير التوقعات إلى تباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي خلال عام 2025 مع تزايد قلق المستهلكين والشركات من الأجندة الاقتصادية لترامب، نما الاقتصاد الأميركي بوتيرة أسرع في الربع الأخير من عام 2024 مقارنةً بالتقديرات السابقة، في ظل زيادة قوية في أرباح الشركات.
وقد نمت الأرباح بعد خصم الضرائب بنسبة 5.9 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي، وهو أعلى مستوى لها منذ أكثر من عامين. بالتالي قد تكون الشركات قادرة على تحمل بعض الصدمات وآثار الضبابية التي تخلفها التوترات التجارية.
من جهة أخرى، توسّع عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة مع بداية هذا العام، وسط نمو الواردات بوتيرة فاقت ارتفاع الصادرات، مع زيادة صادرات السلع الرأسمالية والطائرات المدنية. وقد ارتفع عجز الميزان التجاري بنسبة 34 في المئة على أساس شهري في يناير إلى 131.4 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ بدء جمع البيانات في عام 1992.
كما وصل العجز التجاري للولايات المتحدة إلى 1.2 تريليون دولار في عام 2024، وشكل العجز التجاري مع الصين النسبة الأكبر حيث وصل إلى 295 مليار دولار، يليها العجز مع المكسيك بقيمة 172 مليار دولار.
ويبدو أن معظم الأرقام الاقتصادية ستدفع الإدارة الأميركية إلى التشدد أكثر في الحمائية. لكن السؤال يبقى في نوعية وشكل الخطوات التي ستُتّخذ.

المنافسة الشرسة مع الصين
تعود إلى الواجهة فصول الحرب التجارية التي شهدناها في العهد السابق للرئيس ترامب مع الصين، ويعود معها العالم إلى حال الترقب. فهذه الحرب تهدد سلاسل الإمداد العالمية، وفي حال تطورت الأزمة، قد نشهد هبوطا حاداً في الكثير من المواد الأولية لاسيما تلك المستخدمة في الزراعة مما يهدد الأمن الغذائي في مناطق كثيرة من العالم، كما نشهد تاثيرات كبيرة على شركات التكنولوجيا ونقصاً في اشباه الموصلات التي تنعكس كذلك على الكثير من القطاعات الصناعية.
كان قد توعّد وزير الخارجية الصيني واشنطن بأن بلاده ستقاتل حتى النهاية في حرب الرسوم الجمركية أو التجارية أو أي حرب أخرى معتبراً أن الحسابات الأميركية مخطئة جداً إذا اعتمدت تصعيد ضغوطها على بكين، داعياً واشنطن للعودة إلى الحوار والتفاوض، وهو الأسلوب الذي كما يبدو لا يتقنه الرئيس ترامب.

العلاقة الأوروبية الأميركية المسمومة
العلاقات الأميركية الأوروبية ذات الأهمية البالغة، تقع الآن في دائرة الخطر في ظل سياسة الحمائية التي تتبعها الإدارة الأميركية. وقد استخدم ترامب ورقة الطاقة ليضغط على الدول الأوروبية لشراء مزيد من الغاز المسال من الولايات المتحدة.
وفي تفاصيل البيانات التجارية، بلغ حجم التبادل بين الطرفين العام الماضي نحو 976 مليار دولار. لكن العجز التجاري الأميركي متزايد مع الاتحاد الاوروبي، إذ تخطى 235 مليار دولار. كما تظهر البيانات أن صادرات السلع الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي سجلت في العام 2024 حوالي 370 مليار دولار، بزيادة طفيفة بلغت 0.7 في المئة فقط (ما يعادل 2.6 مليار دولار) مقارنة بعام 2023.
يأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه واردات الولايات المتحدة من الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ، حيث بلغت 605.8 مليار دولار، بزيادة قدرها 5.1 في المئة (29.4 مليار دولار) مقارنة بعام 2023.
وتجدر الإشارة إلى أن تاريخ العلاقات التجارية عبر الأطلسي تاريخ مليء بالاضطرابات، وقد شهد 7 حروب تجارية منذ العام 1963، أي على مدار أكثر من 60 عاماً.
ولن تؤدي الرسوم الجمركية إلى ارتفاع الأسعار وتغذية التضخم والتاثير على الوظائف فحسب، بل ستقوّض قدرة الشركات على توسيع استثماراتها، مما يزيد الضغوط على النمو الاقتصادي العالمي.
لكن ربّ ضارة نافعة، حيث قد تدفع السياسات الأميركية الدول إلى تغيير خريطة اتفاقياتها وتوطيد علاقات تجارية مع حلفاء جدد أو قدامى، لتخلق نموذجاً جديداً في العلاقات الدولية والتجارية.