تضجّ القاعة بالتصفيق ما إن يتوجّه المطران إلبيذوفوروس لامبرينياذيس(*)، رئيس أساقفة الكنيسة اليونانيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، إلى دونالد ترامب قائلاً إنّ الرئيس يذكّره بالقيصر الرومانيّ قسطنطين الكبير، مؤسّس مدينة القسطنطينيّة (اسطنبول حاليّاً). ثمّ يقدّم له صليباً مؤكّداً أنّ رمز الصليب هو ما قاد قسطنطين إلى الانتصار على أعدائه، وذلك بعدما أبصر المسيح يقول له في رؤيا: "بهذا (أي بعلامة الصليب) تنتصر". ويضيف رئيس الأساقفة أنّ الصليب رمز أبديّ للسلام، وإكليل لا يُقهر، وعلامة للعزّة الإلهيّة، وأنّه شخصيّاً يصلّي من أجل أن يحقّق رئيس الولايات المتّحدة الجديد السلام للعالم بعلامة الصليب، وأن يجعل أميركا بلداً لا يُقهر. فتضجّ القاعة بالتصفيق ثانيةً.هذا السيناريو ليس ضرباً من ضروب الخيال، ولا هو مستلهم من شريط سينمائيّ يماثل "حرب النجوم" بنسخته الجديدة، بل واقعة تاريخيّة حدثت قبل أيّام معدودة حين فتح البيت الأبيض أبوابه للاحتفال بذكرى استقلال دولة اليونان. من الغرائبيّ، طبعاً، أن يلجأ رئيس أساقفة أميركا التابع للبطريركيّة المسكونيّة، الواقعة في حيّ الفنار في اسطنبول، إلى حكاية قسطنطين. فعلى الرغم من حضورها في الليتورجيا البيزنطيّة، ثمّة اليوم عشرات من المؤرّخين يطعنون في صحّتها. والأكيد أنّه جرى استخدامها، بصرف النظر عمّا رآه قسطنطين بالفعل، بغية توطيد التحالف بين المسيحيّة والدولة الرومانيّة بعد قرنين ونيّف كانت المسيحيّة إبّانهما منظومةً إيمانيّةً تتعرّض للاضطهاد، وتنتشر كالنار في الهشيم بالرغم من كونها على هامش السلطة السياسيّة.
حكاية قسطنطين الكبير مع الرؤيا المزعومة وضعت مداميك التخادم المتبادل بين المسيحيّة والعرش. يعود الفضل في ذلك، بالدرجة الأولى، إلى أسقف يدعى إفسافيوس القيصريّ (توفّي العام 339) كتب حياة القيصر قسطنطين مروّجاً للأيديولوجيا التي حوّلت صليب يسوع من رمز للاعنف والغفران إلى أداة لتبرير القتل، تتيح للقيصر أن يخوض حروبه ضد برابرة الداخل والخارج باسم دين يسوع المسيح. في ما بعد، أطلقوا على هذه الأيديولوجيا لقب "الاتّساق" (symphonia). بات القيصر يموّل مجامع الكنيسة ويخلع عليها ما يستولي عليه من هياكل الوثنيّة. وصارت هي تصلّي من أجله وتبارك حروبه باسم تحقيق "السلام" الرومانيّ. هكذا حلّ يسوع المسيح، في عقول الأباطرة والبطاركة معاً، محلّ أبي الآلهة زوس من حيث اضطلاعه بحماية القيصر، وذلك بعدما تعبت الإمبراطوريّة من ديانتها القديمة واستبدلتها بالمسيحيّة.المطران إلبيذوفوروس يعرف هذا كلّه. أو لنقل إنّه من المفترض أن يعرفه. لكنّ مطارنة الكنيسة الأرثوذكسيّة، في غالبيّتهم، ما زالوا يعيشون داخل أسوار القسطنطينيّة، ولم ينتبهوا بعد إلى أنّ المدينة تبدّلت، والعالم تبدّل، والناس أيضاً تبدّلوا. ومن ثمّ، هم لا يجدون حرجاً في استعادة الأساطير القديمة عن السلام الذي يتحقّق بالحرب مباركين الطاغية، بقطع النظر عمّا إذا كان اسمه دونالد ترامب أو فلاديمير بوتين أو بشّار الأسد أو أحمد الشرع. يغرّهم الطاغوت بادّعائه حماية الدين ومصالح أهله. ويغويهم الحلف بين العرش والمقدَّس. ولا يؤرقهم أن يستعيضوا عن الصليب، بوصفه علامة اللاعنف الكبرى ورمز دينونة ممالك الأرض جميعها، بإيديولوجيا تبارك العنف "في سبيل تحقيق السلام" وترنو إلى إعادة استيلاد فكرة الإمبراطوريّة التي لا تُقهر. مشهد ترامب السكران بجبروته مع المطران إلبيذوفوروس يسلّمه صليب العزّة يدلّ كم أنّ كثراً لا يجدون غضاضةً في هذا كلّه، إذ لم ينقطعوا بعد عن التصفيق على قدر ما تغريهم الأسطورة القديمة عن التحالف الذي لا يُقهر بين القيصر والإله.
(*) رئيس الأساقفة اليوناني في الولايات المتحدة إلبيدوفوروس يقدم "صليباً مقدّساً" للرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما شبهه بالإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير، قائلًا له "بهذا الصليب ستجلب السلام للعالم، و"ستجعل من أميركا أمة لا تُقهَر".
وخلال احتفال البيت الأبيض بيوم الاستقلال اليوناني، أشاد إلبيدوفوروس بقيادة ترامب، قائلًا "أنت تجسد قيم إيماننا المسيحي وحب الإنجيل".
وعقد مقارنة مع الإمبراطور قسطنطين، أول من اعترف بالمسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، وقال إلبيدوفوروس "أنت تذكرني بالإمبراطور الروماني العظيم قسطنطين الكبير"، ما أثار هتاف الحضور، وأضاف "هذا الصليب رمزٌ أبديٌّ للسلام وكأسٌ لا تُقهر".