لطالما كانت تحويلات المغتربين اللبنانيين حجر الزاوية في دعم الاقتصاد الوطني، إذ كانت تمثل المصدر الرئيسي لتمويل الأسر اللبنانية، وتعزيز الطلب المحلي، وتوفير العملة الصعبة. وقد لعبت هذه التحويلات دوراً أساسياً في ملء فجوات السيولة النقدية في بلد يعتمد بصورة كبيرة على الخارج لتمويل احتياجاته الأساسية. ومع ذلك، فقد كشفت البيانات الأخيرة للبنك الدولي عن تراجع حاد في حجم هذه التحويلات خلال العام 2024، إذ انخفضت إلى 25.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، وهو أدنى مستوى لها منذ العام 2007، مقارنة بـ 33 في المئة في 2023 و31 في المئة في 2022. ويُعد هذا الانخفاض بمقدار 13.4 في المئة، حيث بلغ إجمالي التحويلات إلى لبنان في 2024 حوالي 5.8 مليارات دولار أميركي، مقارنة بـ 6.7 مليارات دولار في 2023.


انعكاسات اقتصادية

يعتبر انخفاض تدفقات التحويلات إلى لبنان في العام 2024 مؤشراً على أبعاد اقتصادية أعمق تتجاوز كونه مجرد انخفاض في التحويلات المالية. فإجمالي تدفقات التحويلات إلى لبنان كان أقل من المتوسط السنوي الذي بلغ 6.4 مليارات دولار أميركي بين عامي 2020 و2024. وتتعارض هذه المعطيات مع الاتجاهات المسجلة في العديد من الدول النامية، التي شهدت زيادة في تدفقات التحويلات بمقدار 5.8 في المئة في العام 2024، إضافة إلى ارتفاع تحويلات الدول العربية بنسبة 5.1 في المئة، وكذلك زيادة قدرها 9.7 في المئة في الدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط.


وعلى الرغم من تراجع حجم التحويلات، بقي لبنان في المرتبة 37 عالمياً من حيث أكبر متلقٍ للتحويلات المالية، والمرتبة 25 بين البلدان النامية. ومقارنة بالدول العربية، يأتي لبنان في المرتبة الثالثة بعد مصر (22.7 مليار دولار) والمغرب (12 مليار دولار). وقد شكلت تحويلات المغتربين إلى لبنان نسبة 0.64 في المئة من إجمالي تحويلات المغتربين عالمياً في 2024، مقارنة بنسبة 0.77 في المئة في 2023.


أكثر من مجرد أموال

لم تكن تحويلات المغتربين إلى لبنان مجرد مصدر إضافي للدخل، بل كانت بمثابة شبكة أمان اقتصادية للأسر اللبنانية، خصوصاً في ظل الانهيار المستمر في العملة الوطنية، وتراجع القوة الشرائية، وشح الدولار في الأسواق المحلية لا سيما بعد العام 2019، بحيث سعت الأسر اللبنانية إلى تأمين احتياجاتها الأساسية مثل الغذاء والدواء، وكذلك دفع تكاليف التعليم والسكن، عبر هذه التحويلات التي شكلت أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.


وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، لعبت التحويلات دوراً أساسياً في توفير العملة الصعبة، وهو أمر بالغ الأهمية لاقتصاد لبنان الذي يعتمد بصورة شبه كاملة على الاستيراد. ومع تراجع احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان، أصبحت التحويلات من المغتربين مصدراً أساسياً للعملة الصعبة، ما ساعد على تخفيف الضغوط الاقتصادية المتزايدة على البلاد. ومع غياب تدفقات رأسمالية أخرى من الاستثمارات الأجنبية أو التمويل الدولي، كان لهذه التحويلات تأثير استقرار نسبي على الاقتصاد اللبناني.


أزمة عجز التمويل الخارجي

لا تقتصر الأزمة المالية على تراجع التحويلات المالية وحسب، بل تشمل أيضاً انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الإنمائية الدولية. فقد أظهرت بيانات “كنوماد” (شراكة المعرفة العالمية للهجرة والتنمية) أن الاستثمار الأجنبي المباشر في لبنان انخفض من 2.6 مليار دولار في العام 2018 إلى حوالي 50 مليون دولار فقط في 2023، ما يعكس فقدان الثقة بالاقتصاد اللبناني نتيجة الاستقرار السياسي والاقتصادي الهش. أما المساعدات الدولية، فقد اتخذت منحى موجهاً بصورة رئيسية لدعم اللاجئين السوريين، إذ لم تتجاوز 1.35 مليار دولار، في وقت تزداد فيه الضغوط على الدول المانحة، خصوصاً مع تراجع التمويل الأميركي للمنظمات الدولية.


تراجع رغم الأزمات

في حين أن الأزمات الاقتصادية الكبرى تاريخياً كانت تؤدي إلى زيادة تدفقات التحويلات، بحيث يسعى المغتربون الى دعم عائلاتهم في الأوقات الصعبة، إلا أن العام 2024 شهد حالة مغايرة، إذ تراجعت التحويلات المالية في وقت كانت فيه الأزمات الاقتصادية تضغط بصورة أكبر على لبنان. ويطرح هذا التراجع في التحويلات عدة تساؤلات حول العوامل المؤثرة في هذه الظاهرة، والتي يمكن تلخيصها بتراجع القدرة المالية للمغتربين في بعض الدول نتيجة للأزمات الاقتصادية العالمية، ما أثر على قدرتهم على إرسال الأموال إلى لبنان. بالاضافة إلى ذلك، فقد حدث تغير في أنماط التحويلات بحيث بدأ المغتربون باختيار طرق بديلة لدعم أسرهم، مثل تمويل نفقات معينة بصورة مباشرة أو توفير فرص عمل للأفراد في الخارج بدلاً من إرسال الأموال عبر التحويلات التقليدية. كما ساهم تراجع الثقة بالنظام المصرفي اللبناني بعد الأزمة المالية التي مر بها، بالاضافة إلى التعقيدات الاضافية الناجمة عن وضع لبنان في “اللائحة الرمادية”، في زيادة صعوبة التحويلات.


وعلى الرغم من أن انخفاض التحويلات يمثل مؤشراً سلبياً نظراً الى الدور الحيوي الذي تلعبه في الاقتصاد اللبناني، إلا أن ثمة جانباً إيجابياً محتملاً لهذا التراجع. فقد يكون هذا التراجع في التحويلات بمثابة مؤشر على أن الاقتصاد اللبناني بدأ بتقليل اعتماده على التدفقات المالية الخارجية بصورة طفيفة. وفي حال استمر الناتج المحلي الاجمالي في الاستقرار أو النمو على الرغم من انخفاض التحويلات، فقد يشير ذلك إلى بداية تعافي بعض القطاعات الاقتصادية المحلية أو إلى أن الأسر اللبنانية قد وجدت طرقاً أخرى لتلبية احتياجاتها الأساسية.


ومع ذلك، فإن هذا التحول في الاعتماد على الاقتصاد المحلي بدلاً من التحويلات الخارجية لا يزال في مراحله المبكرة. وهو بحاجة إلى إصلاحات هيكلية شاملة لدعم القطاعات الانتاجية، وتحفيز الاستثمار المحلي، وتقليل الاعتماد على المساعدات المالية الخارجية. وفي حال تمكن لبنان من تنفيذ إصلاحات هيكلية حقيقية، مثل تعزيز القطاعات الانتاجية المحلية، وتوسيع قاعدة الاستثمارات المحلية، وتوفير بيئة اقتصادية مواتية لها، فإن الاقتصاد اللبناني قد يشهد تحسناً تدريجياً في العام 2025.