جويل بو يونس -

بعد ليل وساعات طويلة من الانتظارالثقيل والمثقل بوحشية التدمير، بزغ اخيرا فجر السابع والعشرين من تشرين الثاني 2024 ، معلنا نهاية دمار وخراب محا معالم الجنوب والضاحية وارخى باثقاله على البقاع ، ووحشية طالت قلب بيروت النابض رغم كل الاوجاع ، ودماء غالية سالت على امتداد الوطن صونا للـ 10452 كلم دون شبر من النقصان، ومؤذنا بوقف آلة القتل والاجرام، وبدء التنفيذ الفعلي وتحديدا في الرابعة فجرا لاتفاق وقف اطلاق النار، بعدما اعلن رسميا بجهود اميركية - فرنسية من جهة ولبنانية من جهة اخرى ، قادها المفاوض المحنّك من الطراز الاول رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي انتزع الاتفاق من دون التفريط بشبر من السيادة وكما اراده لبنان، تاركا التفاصيل التقنية لمن يثق بحنكته مستشاره علي حمدان، الذي امضى ليلة مع هوكشتاين ينقّح ويتفحّص كل بند وكل تفصيل بالشاردة والواردة، الى ان سلّم الوسيط الاميركي الامانة بكل ملاحظاتها لنقلها لـ "اسرائيل" وبالملاحظات الي اوردها لبنان، وهذا ما حصل قبل ايام من الاعلان الرسمي عن وقف النار في 27 الحالي.

لم يكد الاتفاق يدخل حيز التنفيذ ، حتى غصت الطرقات باهالي الجنوب والضاحية والبقاع الذين حزموا امتعتهم باتجاه العودة ، لم ينتظر هؤلاء ساعات الصباح، ولا سقفا يأويهم، ولم يأبهوا للامطار الهاطلة بكثافة ، فما من شيء اجمل واحلى من العودة الى الارض ، كيف لا وهم العائدون مع فرحة الصمود حاملين رسالة واحدة : نحن هنا...وفي اليوم نفسه عدنا..صامدون حتى الرمق الاخير!

في وجوه هؤلاء فرحة كبيرة، لكن الفرحة كانت ممزوجة بغصة اكبر، فالعودة لا تحلو بغياب سيد الكلام ، من اعتاد ان يخرج ويوصل صوت الانتصار لما بعد بعد "حيفا" و"عكا" و "تل ابيب" ، ويشكر الاهل الصامدين ورجال الله في الميدان الشرسين ، انها غصة غياب السيد، ذاك القائد الذي لا مثيل لكلامه، لا في لحظة الانكسار ولا في لحظة الانتصار.

كل لبناني سواء كان حليفا او خصما لحزب الله ، او مجرد متابع سياسي عن بُعد، استذكر امس السيد وتخيله لوهلة يطل على جمهوره، وفي هكذا لحظة تاريخية بتلك الكاريزما القوية ،ويجبر الجميع على التسمر امام الشاشات ليسمع كلمة السيد لحظة وقف العدوان ، لكن السيد غاب امس وبقي حاضرا في قلوب وافكار محبيه ، غاب السيد مطمئنا الى مقاومة استشرست على الغياب فتملّكت الميدان، ودحرت العدو واقفة سدا منيعا بوجه تقدمه ولو مترا واحدا، فسرّعت عملية وقف اطلاق النار .

صحيح ان الحرب انتهت ، وصحيح ايضا ان حزب الله قد يكون اخطأ الحسابات، ففتح جبهة الاسناد التي كلفت لبنان الكثير من الدمار والخراب، لكن اقسى واغلى ما كلفته هي دماء الشهداء التي لا تعوض ، شهداء كل لبنان وفي مقدمهم امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، ولا يسعني هنا في هكذا لحظات الا ان استذكر من كان دائما على السمع، رغم كل التهديدات ، ذاك الرجل الديبلوماسي الراقي بتعاطيه مع الاعلام ، صاحب المقولة الشهيرة :" لم يخيفنا القصف فكيف تخيفنا التهديدات"، الى ان اغتالته يد الاجرام بعدما ازعجها صوته الصادح بوجه العدوان، هو الحاج محمد عفيف الذي ترك فراغا لكل من حاول استقاء المعلومة الدقيقة عن جو حزب الله.. اشتقنا نسألك بجلسة نقاش طويلة لا تخلو من المشاكسة : يا حاج ماذا بعد وقف النار؟ ما قراءتك للمشهد المقبل؟ كيف سيعود حزب الله الى الداخل اللبناني؟ الم يخطئ حزب الله الحسابات؟ الف سؤال وسؤال يدور ببالنا عند كتابة كل مقالة...

لكننا مع الاسف امام "لعنة وطن" كما وصّفها كريم بقرادوني في كتابه الشهير ، محكومة بلعنة الجغرافيا ، والتي تستجلب الحروب والدمار ، وتضع هذا البلد الصغير لبنان بدائرة الحرب والمصير المجهول الهوية.

قد تكون الاغلبية تجمع على ان حزب الله ادخل البلد بحرب كان بغنى عنها، ولم تجلب الا الدمار والخراب، حتى ان حزب الله الذي بلا شك سيجري مراجعة ذاتية نقدية لكل ما جرى، قد يخرج بهذه الخلاصة، لكن الوقت الآن ليس للحساب، فهذا نقاش طويل يأتي وقته يوما ما، اما اليوم لا بد من القول : الرحمة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى، والامل الاكبر باعادة بناء ما تدمر ، فالحرب انتهت وبدأ الجميع يفكر باليوم التالي، والذي قد تكون تداعياته اخطر من الحرب نفسها.

ماذا بعد انتهاء الحرب؟ هنا السؤال الاساس ، كيف سيعود حزب الله الى الداخل؟ الحزب يقول انه انتصر والخصوم يعلنون الفشل والانهزام، حتى ان البعض ذهب حدّ التخوف من ان "تصفّي "اسرائيل" وايران حساباتهما ويتركولنا الحزب للداخل"، انها لغة تصعيدية لا تشي الا بتوتر داخلي قد نكون مقبلين عليه قريبا.

هذه الخشية بالتحديد ، كثر في الداخل بدأوا التفكير بمواجهتها، حتى ان بعض الخارج بدأ يمهد بسلسلة لقاءات لوجوب عدم تهميش المكون الشيعي، ولعل ابرز من يعمل على هذا المسار هو السفير السعودي وليد البخاري، الذي وما ان عاد من الرياض منذ حوالى الاسبوع حتى بدأ سلسلة اتصالات، ولقاءات مع عدد من النواب بحركة لافتة، اعادت الى الواجهة الدور السعودي في لبنان، وبات الجميع يسأل ماذا في جعبة المملكة للبنان؟ وما سر هذه اللقاءات؟

قد تكون غالبية اللقاءات التي عقدها البخاري هي مع عدد من النواب السنة، الى جانب لقاء لافت استتبع بمأدبة عشاء بدعوة من السفير، مع نواب "اللقاء التشاوري" الاربعة الياس بوصعب، سيمون ابي رميا، آلان عون وابراهيم كنعان، مع الاشارة الى ان هذه اللقاءات حصلت قبل اعلان وقف اطلاق النار.

مصادر مطلعة على جو اللقاءات كشفت بان هدفها الاساس هو استشراف التطورات السياسية، بما فيها وجوب الاسراع بانتخاب رئيس للجمهورية، مشيرة الى ان هذا الحراك للسفير السعودي، يؤكد عودة الاهتمام السعودي بالملف اللبناني الى الواجهة من جديد.

وبحسب المعلومات من مصادر نيابية سنية التقت البخاري، ان سفير المملكة كان يحرص خلال لقاءاته مع بعض نواب السنة ، لا سيما "المتشددين" تجاه حزب الله على وجوب العمل على احتضان المكون الشيعي، اذ لمس النواب انفتاحا سعوديا على عدم اعتماد اللغة الخشبية تجاه المكون الشيعي ومحاولة عزله ، وعدم استبعاده من المعادلات لا بل استيعابه.

هذه اللغة التي تمنى السفير اعتمادها، قرأ فيها مصدر متابع للاجواء الاقليمية ، ايجابية من شأنها ان تعكس سياسة المملكة الجديدة بالتقارب مع إيران.

ملف آخر تعطيه المملكة اولوية هذه الايام ،هو ملف انتخابات الرئاسة اللبنانية، بحيث حاول البخاري خلال لقاءاته مع النواب معرفة من هو المرشح الافضل بالنسبة لهم من دون الدخول باسم معين، مركزا على مواصفات اساسية يجب ان يتمتع بها الرئيس المقبل، اساسها النزاهة والعمل على تحقيق الاصلاح المطلوب، ورئيس قادر ان يجمع الشمل ويستوعب كل المكونات بما فيها المكوّن الشيعي ، لا سيما بعد الحرب الاخيرة وما خلفته من تداعيات.

وتقول المعلومات ان السفير البخاري كان اسرّ امام بعض زواره ان ملف الرئاسة سيوضع على نار اكثر من حامية، اذا تم التوصل لوقف لاطلاق النار ، كما كشف ان المملكة ستكون اول العائدين للاستثمار بلبنان، لا بل ان هذه الاستثمارات ستتدفق الى لبنان ، اذا انتخب الرئيس وسار على سكة الاصلاح المطلوبة، ونسج افضل العلاقات مع المحيط العربي.