في تصعيد متزايد للتوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، أعلنت الصين عن فرض رسوم جمركية إضافية على مجموعة واسعة من المنتجات الزراعية الأميركية، وذلك رداً على الرسوم الأميركية الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ أخيراً.
 
هذه الخطوة الصينية، التي تستهدف بشكل خاص صادرات زراعية حيوية مثل فول الصويا والذرة، تهدد بتعطيل جزء كبير من التجارة بين البلدين، وتثير مخاوف من تصاعد الصراع إلى "حرب اقتصادية باردة" شاملة.
 
تأتي هذه الإجراءات المتبادلة في توقيت يستعد فيه المزارعون الأميركيون لموسم الزراعة الجديد، وتعتمد الصين على واردات زراعية ضخمة لتلبية احتياجاتها الغذائية. ومع تصاعد حدة التوتر، يطرح العديد من التساؤلات المحورية وأبرزها، ما هي التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية لصراع الصين وأميركا؟  وإلى أي مدى سيؤثر هذا الصراع على العلاقات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة؟ وهل نحن بصدد تحول نحو "حرب اقتصادية باردة" جديدة، وما هي ملامحها وتداعياتها؟
 
وأعلنت الصين الثلاثاء أنها ستفرض رسوماً جمركية إضافية تصل إلى 15بالمئة على بعض السلع الأميركية اعتباراً من 10 مارس الجاري وتقيد الصادرات إلى 15 شركة أميركية، هذه الإجراءات الذي وصفها تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية بـ "الانتقامية"، جاءت من وزارة المالية ووزارة التجارة الصينية بالتزامن مع دخول الرسوم الجمركية الأميركية الإضافية على السلع الصينية حيز التنفيذ.
 
 
وتغطي الرسوم الجمركية الصينية إلى حد كبير السلع الزراعية الأميركية كما تشمل الشركات المتأثرة بضوابط التصدير Leidos و General Dynamics Land Systems، وفقاً لوزارة التجارة.
 
وقال لو تشين جيان، المتحدث باسم الدورة الثالثة للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني: "إن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة لا بد أن تشهد خلافات، لكن الصين لن تقبل الضغط أو التهديد.
 
بدوره، أكد البيت الأبيض أن الرسوم الجديدة بنسبة 10بالمئة على السلع الصينية التي دخلت حيز التنفيذ الثلاثاء، ترفع إجمالي الرسوم الجديدة المفروضة في حوالي شهر إلى 20 بالمئة.
 
وقالت وزارة التجارة الصينية إن بكين "ترفض بشدة" الرسوم الأميركية الإضافية على السلع الصينية وستتخذ إجراءات مضادة.
 
حافظ غانم: فك الارتباط الفوري بين الصين وأميركا غير واقعي
استياء بشأن الرسوم الجمركية
 
ونقلت الشبكة الأميركية عن فريدريك كاريير، رئيسة استراتيجية الاستثمار في RBC Wealth Management، إن "الحروب التجارية تحمل خطر الانتقام والتصعيد - وبالتأكيد في حالة الصين، وربما في حالة كندا والمكسيك، اللتين تواجهان أيضاً رسوماً ... نتوقع بعض الرد، رد ربما ليس بالمثل تماماً، بل رد مستهدف لإظهار الاستياء الذي تعيشه هذه البلدان من فرض الرسوم الجمركية".
 
وبعد الجولة الأولى من الرسوم الأميركية الجديدة في فبراير، شملت الإجراءات الصينية الانتقامية رفع الرسوم على بعض واردات الطاقة الأميركية ووضع شركتين أمريكيتين على قائمة الكيانات غير الموثوقة التي قد تقيد قدرتهما على ممارسة الأعمال التجارية في الدولة الآسيوية.
 
ومن المقرر أن يصل متوسط معدل الرسوم الأميركية الفعلي على السلع الصينية إلى 33 بالمئة بالمئة ارتفاعاً من حوالي 13بالمئة قبل أن يبدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولايته الأخيرة في يناير، وفقاً لتقديرات كبير الاقتصاديين الصينيين في Nomura، تينغ لو.
 
وذكر تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز، أن "فرض بكين رسوماً جمركية على مجموعة من المنتجات الزراعية الأميركية في إطار إجراءاتها المضادة لواشنطن، يهدد بتعطيل جزء رئيسي من التجارة بين قوتين زراعيتين.
 
وأوضح التقرير أنه في حين كانت القائمة الإجمالية للإجراءات الصينية محدودة، إلا أن الطبيعة الواسعة للتحركات الزراعية كانت غير متوقعة، حيث مست السلع من لحوم البقر إلى الذرة وفول الصويا.  
 
وتفصيلاً أشار التقرير إلى أن بكين ستضيف رسوماً بنسبة 10بالمئة على شحنات فول الصويا الأميركية بدءاً من 10 مارس كما ستفرض رسوم إضافية بنسبة 10 بالمئة على الذرة الرفيعة ولحم الخنزير ولحم البقر، بينما ستفرض بكين رسوماً إضافية بنسبة 15بالمئة على الدجاج الأميركي والقمح والذرة والقطن، وفقاً لبيان منشور على موقع وزارة المالية.
 
وتشمل الإجراءات بعضاً من أكبر الصادرات الزراعية الأميركية إلى الصين، وتأتي في الوقت الذي يفصل فيه المزارعون الأميركيون أسابيع قليلة عن زراعة المحاصيل للموسم القادم. الصين هي أكبر مستورد لفول الصويا في العالم، والذي يتم طحنه إلى زيت طهي ويستخدم لإطعام قطيع الخنازير الضخم.
 
وانخفضت العقود الآجلة لفول الصويا، ذات الأهمية الحاسمة نظراً لحجم الواردات الصينية، بنحو 0.3 بالمئة اعتباراً من ظهر الثلاثاء بعد أن لامست أدنى مستوى لها فيما يقرب من شهرين. وانخفضت العقود الآجلة للقطن في نيويورك إلى أدنى مستوى لها في أكثر من أربع سنوات. ولم يطرأ تغيير يذكر على الذرة والقمح.
 
تصاعد التوترات التجارية
 
 في حديث خاص لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري: "تصاعدت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة بعد إعلان بكين فرض تعريفات جمركية جديدة على المنتجات الزراعية الأميركية، مما يهدد بتقويض صادرات المزارعين الأميركيين، الذين خسروا بالفعل أكثر من 24 مليار دولار منذ 2018 بسبب القيود التجارية الصينية. وتأتي هذه الخطوة الصينية رداً على سياسات واشنطن الاقتصادية، في وقت تشهد فيه التجارة الثنائية تراجعاً حاداً، حيث انخفض حجمها بنسبة 15بالمئة في 2022 و10بالمئة إضافية في 2023".
 
لكن الصراع لم يعد مقتصراً على الرسوم الجمركية، بل امتد إلى التكنولوجيا والجغرافيا السياسية، مما يعزز فرضية نشوء "حرب اقتصادية باردة". فقد فرضت الولايات المتحدة في 2023 قيوداً صارمة على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين، مما أثر على شركات مثل هواوي وSMIC. وردت بكين بفرض قيود على تصدير المعادن النادرة، التي تسيطر على 80 بالمئة من الإنتاج العالمي، مما يهدد قطاع التكنولوجيا الأميركي، بحسب تعبيره.
 
سيناريوهات الصراع
 
مع استمرار هذا الصراع، هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات الاقتصادية بين الصين وأميركا وهي كما ذكرها الخبير الاقتصادي الدكتور الشبشيري:
 
سيناريو التصعيد المستمر (الحرب الاقتصادية الباردة الطويلة)
في هذا السيناريو، تستمر الصين وأميركا في تبادل الإجراءات الاقتصادية العقابية، مما يؤدي إلى تقويض التجارة العالمية وزيادة الضغوط على الشركات والمستهلكين. ستتسارع الجهود لفصل الاقتصادين (”دي كابلينغ”)، حيث تسعى أميركا لتقليل اعتمادها على التصنيع الصيني، بينما تعزز الصين تحالفاتها التجارية مع دول مثل روسيا، والبرازيل، والهند. هذا السيناريو قد يؤدي إلى اضطراب اقتصادي عالمي طويل الأمد، مع استمرار تقلبات الأسواق وزيادة تكاليف الإنتاج عالمياً.
 
سيناريو التفاوض والتسوية الجزئية
قد يلجأ الطرفان إلى تفاهمات محدودة تهدف إلى تجنب المزيد من الضرر الاقتصادي، من خلال تخفيض بعض الرسوم الجمركية أو إعادة صياغة اتفاقيات التجارة كما حدث في اتفاق “المرحلة الأولى” عام 2020. لكن هذا السيناريو لن ينهي الصراع تماماً، بل سيخفف من حدته مؤقتاً، مع استمرار التنافس في المجالات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا وسلاسل التوريد.
 
سيناريو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي
في هذا السيناريو، يتسارع الاتجاه نحو ظهور كتلتين اقتصاديتين عالميتين، واحدة تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا، وأخرى تتمحور حول الصين وحلفائها مثل روسيا وإيران وبعض الدول الناشئة. ستظهر سلاسل توريد جديدة، حيث تعتمد الصين أكثر على التصنيع المحلي والأسواق البديلة، بينما تبحث الشركات الغربية عن بدائل للإنتاج خارج الصين، مثل الهند، والمكسيك، وفيتنام. قد يؤدي هذا السيناريو إلى تحولات جذرية في النظام المالي والتجاري العالمي، مما قد يخلق فرصاً جديدة لبعض الدول، لكنه سيزيد من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي.
 
وأضاف الشبشيري: " في هذا الصدد تشير تقديرات صندوق النقد الدولي (IMF) إلى أن استمرار الصراع قد يؤدي إلى خسائر تصل إلى 1.5 تريليون دولار بحلول 2025، مما يعكس مدى التأثير المحتمل على الاقتصاد العالمي. في ظل هذه السيناريوهات، يظل السؤال الأهم: هل ستتمكن القوى الاقتصادية الكبرى من احتواء النزاع قبل أن يتحول إلى مواجهة أكثر حدة، أم أن العالم يتجه نحو إعادة هيكلة اقتصادية قد تستمر لعقود قادمة؟".
 
أميركا تحاول تحقيق مكاسب طويلة الأجل
 
من جانبه، قال مستشار الاقتصاد الدولي عامر الشوبكي في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن الولايات المتحدة ترى نفسها مستفيدة على المدى البعيد من فرض الرسوم الجمركية"، مشيراً إلى أن هذه السياسة بدأتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي يعتبرها الوسيلة الوحيدة لاستعادة الهيمنة الاقتصادية الأميركية بفارق واضح عن الصين.
 
 وأوضح أن الولايات المتحدة، التي كانت تستحوذ على ما بين 40 و45 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي قبل صعود الصين في الثمانينيات، تراجع حجم اقتصادها ليصل حالياً إلى ما بين 25 و27 بالمئة. من الاقتصاد العالمي.
 
وأكد الشوبكي أن واشنطن تسعى إلى إعادة التوازن لميزانها التجاري مع مختلف دول العالم، بدءاً من الصين والمكسيك وكندا، عبر فرض هذه الرسوم الجمركية، بهدف إعادة توطين الصناعات الأميركية التي هاجرت إلى الخارج، مثل صناعة السيارات، والصلب، والحديد، والرقائق الإلكترونية، والتكنولوجيا المتقدمة. وأشار إلى أن الولايات المتحدة تراهن على تحقيق مكاسب طويلة الأجل من هذه السياسات، رغم أن الأثر قصير المدى قد يتسبب في تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي.
 
وأضاف مستشار الاقتصاد الدولي أن هذه الاستراتيجية لم تُختبر بشكل كامل حتى الآن، ما يجعل من الصعب الجزم بمن سيكون الرابح في النهاية، لكن الخطة الأميركية تهدف إلى تحقيق المكاسب في المرحلة الأخيرة. ولفت إلى أن الاقتصاد الأميركي قد يمر بمرحلة اضطراب قبل ظهور نتائج ملموسة لهذه السياسات، مؤكداً أن العام المقبل قد يشهد حالة من الفوضى الاقتصادية قبل أن يتم تقييم نجاح أو فشل هذه الخطة.
 
التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية
 
أما بشأن التداعيات الاقتصادية والجيوسياسية لهذا الصراع، فقد أوضح الشوبكي أن الهدف الأميركي الأساسي يتمثل في الحد من الصعود الاقتصادي الصيني، لأن استمرار النمو الصيني بوتيرته الحالية قد يتيح لبكين تجاوز الاقتصاد الأميركي خلال خمس إلى سبع سنوات. وأشار إلى أن هذا السيناريو يشكل تهديداً استراتيجياً لواشنطن، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضاً على مستوى النفوذ العسكري والتكنولوجي، خاصة مع استثمارات الصين الكبيرة في الذكاء الاصطناعي، وحرب الفضاء، والعلوم العسكرية.
 
وأكد الشوبكي أن الإدارة الأميركية وجدت بعد الدراسة أن أميركا تعد جزء من الصعود الصيني، لذلك تسعى واشنطن إلى فصل اقتصادها عن الاقتصاد الصيني، بهدف حرمان بكين من السوق الاستهلاكية الأميركية، التي تعدّ الأكبر عالمياً. لكنه تساءل عما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة فعلاً على تحقيق هذا الفصل الاقتصادي، مشيراً إلى أن هذه الحرب التجارية قد تكون وسيلة واشنطن لتجنب مواجهة عسكرية مستقبلية مع الصين.
 
وفي ختام حديثه، شدد الشوبكي على أن شعار ترامب "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" يعكس رغبته في استعادة الهيمنة الاقتصادية الأميركية كما كانت قبل صعود الصين، معتبراً أن هذه المواجهة الاقتصادية تمثل محاولة لمنع حدوث صدام عسكري بين البلدين في المستقبل. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع الولايات المتحدة وقف الزحف الاقتصادي الصيني أم أن بكين ستواصل تقدمها رغم هذه القيود؟