مقدمة:
الهوية الأمازيغية بين التحدي والوجود
تشكل الحضارة الأمازيغية أحد أقدم الروافد الثقافية في شمال أفريقيا، حيث تعود جذورها إلى ما قبل التاريخ المكتوب. ومع ذلك، ظلت هذه الحضارة تُعاني من التهميش والإقصاء في الخطابات الرسمية والدراسات الأكاديمية، لا سيما في سياق الهيمنة العربية والإسلامية التي طغت على المنطقة منذ القرن السابع الميلادي. هذا المقال يهدف إلى تفكيك السرديات المهيمنة وإعادة بناء الرواية الأمازيغية من خلال تحليل أنثروبولوجي وتاريخي لأسس هذه الحضارة، مع التركيز على تفاعلاتها مع التحديات السياسية والثقافية الحديثة .
-الأصول التاريخية والجينية للأمازيغ
ترجع الدراسات الأثرية واللغوية وجود الأمازيغ إلى آلاف السنين، مع أدلة تشير إلى استقرارهم في مناطق تمتد من واحة سيوة المصرية شرقًا إلى جزر الكناري غربًا. تشير الأبحاث الجينية إلى تنوع هائل في التركيبة الوراثية للأمازيغ، يعكس تفاعلاتهم مع الشعوب الأوروبية والأفريقية عبر طرق التجارة والهجرات القديمة. على سبيل المثال، تحليل الحمض النووي لسكان الريف المغربيّ يُظهر اختلاطًا مع شعوب البحر الأبيض المتوسط، مما يؤكد دورهم كجسر ثقافي بين القارات .
-المكونات الثقافية للحضارة الأمازيغية
تمثل المكونات الثقافية للحضارة الأمازيغية نسيجًا معقدًا من الرموز والممارسات التي صمدت أمام تقلبات التاريخ، حاملةً في طياتها بصمة هوياتية فريدة تجمع بين التكيف البيئي والعمق الروحي. في صلب هذا النسيج تقف اللغة الأمازيغية (تامازيغت) بوصفها حجر الزاوية، حيث تنتمي إلى العائلة الأفروآسيوية مع تشعبات لهجية كـ"تاشلحيت" في الجنوب المغربي و"تاقبايليت" في الجزائر، والتي تظهر تباينًا صوتيًا وتركيبيًا يعكس التمايز الجغرافي والتاريخي. أما نظام الكتابة (تيفيناغ)، فيعتبر أحد أقدم النصوص الأبجدية في العالم، حيث تظهر النقوش الصخرية في جبال الأوراس وليبيا استخدامًا مبكرًا له يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ورغم محاولات طمسه خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، نجح المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM) في إعادة إحيائه عبر توحيد الحروف وتضمينه في المناهج التعليمية، إلا أن التحدي الأكبر يظل في تقليص الفجوة بين الشكل المعياري (الموحد) واللهجات المحكية اليومية.
على المستوى الطقسي، تجسد احتفالات مثل "إيض يناير" (رأس السنة الأمازيغية) و"إمغران" (طقس الزواج) فلسفة وجودية تربط الإنسان بالطبيعة. فـ"إيض يناير"، الذي يصادف 12 يناير، ليس مجرد احتفال بالانقلاب الشتوي، بل طقس تجديدي يعكس الزمن الدائري في الميتافيزيقا الأمازيغية، حيث تقدم أطباق "الكسكس السبعة" كرمز للخصوبة،. أما في مجال العمارة، فتظهر عبقرية الأمازيغ في إنشاء القصبات والأغروم (المخازن الجماعية المحصنة)، مثل أگورام ندالات في المغرب، والتي تجمع بين الوظيفة الدفاعية والجمالية عبر استخدام مواد محلية كالطمي والقش، مع تصميمات تهوية ذكية تكيف مع المناخ الصحراوي القاسي.
لا ينفصل البعد الجمالي عن البعد الرمزي، ففنون النسيج الأمازيغي، كـ"الزرابي" (السجاد) و"التازناخت" (الحلي الفضية)، تحمل رموزًا هندسية مثل المثلثات المتداخلة والخطوط المتكسرة، والتي تفسرها الباحثة غابرييل كامب (Gabriel Camps, 1987) كتمثيلات للكون والأساطير التأسيسية. أما الوشم التقليدي (تاسنايت)، فقد لعب دورًا ثنائيًا: جمالي-اجتماعي (كعلامة بلوغ أو انتماء قبلي) وروحي-وقائي (كتمائم ضد العين الشريرة)، كما يظهر في وشم "تاسردايت" (الذقن) لدى نساء الأطلس الكبير.
من الناحية التنظيمية، اعتمدت المجتمعات الأمازيغية على نظام "الجْماعة" (المجلس القبلي) و"أزرف" (القوانين العرفية)، التي تنظم حقوق المياه والمراعي، وتعد نموذجًا مبكرًا للديمقراطية التشاركية، بحسب عالم الاجتماع إرنست غيلنر (Ernest Gellner, 1969). ومع ذلك، فإن هذه المكونات لم تكن بمنأى عن التحولات، فتحويل الطقوس إلى مهرجانات فولكلورية لجذب السياحة (كما في مهرجان "تيميتار" بالمغرب) يثير تساؤلات حول توظيف التراث وتسليعه، وفق نقد الباحثة كاتيا بونفين (Katia Boissevain, 2020).
أخيرًا، يشكل الأدب الشفوي الوعاء الأهم للحكمة الأمازيغية، من أشعار "الروايس" التي تغنى بمصاحبة آلة "اللوتار"، إلى حكايات "تينهينان" الأسطورية (الملكة الأمازيغية التي توحدت تحت رايتها القبائل)، والتي تعيد إنتاج قيم المقاومة والانتماء عبر الأجيال. هنا، يبرز تناقض جوهري: فبالرغم من أن الشفاهية حمت الهوية من التلاشي في فترات الاضطهاد، إلا أنها جعلت التراث عرضة للضياع في عصر العولمة،.
- الصراع الهوياتي والسياسي.
شهدت الهوية الأمازيغية تحولات جذرية في القرن العشرين، بدءًا من سياسات "التعريب" التي انتهجتها الدول المغاربية بعد الاستقلال، والتي رأت في التنوع الثقافي تهديدًا للوحدة الوطنية. أدى هذا إلى صراع بين النخب العربية والأمازيغية، تجلى في منع تأسيس أحزاب سياسية أمازيغية وإقصاء اللغة من التعليم الرسمي حتى مطلع الألفية .
ومع دستور 2011 في المغرب، الذي أقر الأمازيغية لغة رسمية، بدأ فصل جديد من النضال من أجل تفعيل الحقوق الثقافية. لكن البنية الهيكلية للإقصاء لم تتغير، كما يوضح الباحث عبد الله بوشطارت، حيث لا تزال الأمازيغية غائبة عن المناهج الثانوية والسياسات العمومية .
- الأدب الأمازيغي بين الشفاهية والتدوين.
يمثل الأدب الأمازيغي حالة استثنائية في تاريخ الآداب العالمية، حيث ظل لقرون طويلة حبيس الذاكرة الشفاهية، متنقلاً عبر الأجيال بواسطة الحكائين (إيمدياّزن) والرواة (إينضامن)، قبل أن يخوض غمار التحول إلى النص المكتوب في العقود الأخيرة، في سياق ثقافي معقد يتداخل فيه الاستعمار والهيمنة اللغوية مع النضال من أجل الاعتراف الهوياتي. تشكل الشفاهية، وفقًا لتحليل الأنثروبولوجي جاك بيرك (Jacques Berque, 1955)، نظامًا معرفيًا متكاملاً في المجتمعات الأمازيغية، قائمًا على الإيقاع والموسيقى كأدوات لحفظ النصوص الطويلة، مثل الملحمة الأسطورية "تينهينان" التي تروى على مدار ليالٍ كاملةٍ في مناطق الطوارق، أو أشعار "الروايس" في الأطلس المتوسط، التي تجمع بين المدح والرثاء والسرد التاريخي، مصاحبةً بآلة "اللوتار" الوترية. هذه الشفاهية لم تكن مجرد وسيلة نقل سلبية، بل فضاءً لإعادة إنتاج الهوية، حيث تظهر دراسة محمد مستاوي (2010) أن الحكايات الشعبية كـ"أغريبا" (الغول) و"تامغارت ن وادو" (سيدة النهر) تحمل رموزًا مقاومةً للاستيعاب الثقافي العربي والإسلامي.
مع ذلك، بدأ التحدي الأكبر مع القرن العشرين، حين اصطدمت الشفاهية بثلاثة عوامل رئيسية:
1. انهيار البنى الاجتماعية التقليدية بسبب الهجرة إلى المدن، مما أفقد الرواة سياقهم المجتمعي.
2. صعود الخطاب القومي العربي في دول المغرب الكبير، الذي نظر إلى الأدب الشفوي الأمازيغي كـ"فولكلور هامشي" لا يستحق التوثيق.
3. تطور تقنيات التسجيل الصوتي والمرئي، التي فتحت آفاقًا جديدةً للحفظ، لكنها أيضًا كشفت عن خطر تشويه النصوص عبر اختزالها في أداءات مبتسرة.
في هذا المناخ، برزت محاولات رائدة للتدوين، بدءًا من الأعمال الاستشراقية المبكرة مثل كتاب أوغست مولييراس (Auguste Mouliéras, 1899) "أساطير البربر"، الذي دون حكايات شفوية من الريف المغربي بلغتها الأصلية، مرورًا بمشروع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM) في تسعينيات القرن العشرين، الذي اعتمد نظام "تيفيناغ" الموحد لكتابة النصوص التراثية. لكن عملية التدوين واجهت إشكالات منهجية عميقة، أبرزها:
- فقدان البعد الأدائي: تحويل النص الشفوي إلى كتابة يفقده عناصر الإيماء والتنغيم والإيقاع، التي تشكل 70% من دلالته وفقًا لتحليل والتونغ (Paul Zumthor, 1987).
- صراع المعايير: اختلاف اللهجات الأمازيغية (تاشلحيت، تاريفيت،...) يجعل اختيار لهجة معيارية للكتابة إشكالية سياسية وثقافية.
رغم هذه التحديات، نجح جيل جديد من الكتاب الأمازيغ في خلق أدب مكتوب يزاوج بين الأصالة والحداثة، مثل رواية "أسفار" لمحمد أكوناض (2012)، التي تعيد كتابة الأسطورة الشفوية بلغة سردية تجريبية، أو أشعار فاطمة الزهراء أزروال التي تحول الأمثال القديمة إلى قصائد نقدية تجاه واقع المرأة الأمازيغية. هذا التحول لم يقتصر على الإبداع، بل شمل أيضًا البحث الأكاديمي، حيث أظهرت الدراسات أن توثيق الأدب الشفوي يعيد تشكيل الذاكرة الجمعية، ويخلق "أرشيفًا مضادًا" للرواية الرسمية العربية.
لكن يبقى السؤال الجوهري: هل يمكن للتدوين أن ينقذ الأدب الأمازيغي من خطر الانقراض، أم أنه يحوله إلى "تحفة متحفية" تفقد حيويتها؟ تجيب الباحثة كاتيا بونفين (Katia Boissevain) بأن الحل ليس في التضاد بين الشفاهية والكتابة، بل في التفاعل الديناميكي بينهما، كما يظهر في مهرجانات "تيميتار" حيث تقدم القصائد الشفوية مع ترجمات فورية إلى الفرنسية والعربية، محولة الأدب من ذاكرة محلية إلى تراث إنساني كوني.
- التحديات المعاصرة وآفاق المستقبل.
رغم التقدم النسبي في الاعتراف الرسمي، تواجه الأمازيغية تحديات وجودية:
1. التهديدات الديموغرافية:
هجرة الشباب الأمازيغ من القرى إلى المدن أدت إلى انقراض لهجات محلية.
2. الصراع الأيديولوجي:
تصاعد الخطابات الإسلاموية والعروبية في المنطقة يعيد إنتاج خطاب الك