"إن الرئيس الآتي غير السابق، إذا ما انتخب رئيسا لدورة رئاسية ثانية"، بحسب القول السياسي الفرنسي المأثور. وعند دونالد ترامب من ذلك، خصوصا وأنه في حملته الانتخابية الأخيرة التي توجته رئيسا لولاية ثانية، قد بدا فيها مرشحا أقل بلطجية أو لنقل أقل شعبوية من حملة انتخابه رئيسا أول مرة في عام 2016. ومع ذلك، ما الذي سيتغير في ترامب؟ أو لماذا عليه أن يتغير نحونا نحن الفلسطينيين والعرب في المنطقة بعد أن جاء انتخابه بمثابة تفويضاً له؟ يتساءل عزمي بشارة في مقابلته الأخيرة عن الانتخابات الأميركية ومآلات فوز ترامب. خصوصاً وأن الرجل، وبعد كل العوائق التي وضعت أمامه كي لا يصل للبيت الأبيض، إلا إنه اجتازها ووصل ثانية، ليكون أول رئيس منذ عام 1892 يعود للبيت الأبيض بعد أن خسر الانتخابات التي قبلها.
لم يحدث، أن كان انتخاب رئيسا في الولايات المتحدة مبعثا للقلق والتكهن في أدائه وسياساته، مثلما هو الحال مع ترامب، فالأنباء على المواقع والمنصات الإعلامية، ومراكز الدراسات والبحث، كلها منشغلة مؤخرا وليس مهتمة فقط، في سؤال: ما الذي سيفعله ترامب؟ ومرد ذلك يعود إلى غرائبية أطوار الرجل أولا؛ وقياسا على مسطرة فترة رئاسته الأولى التي اتخذ فيها قرارات لم يسبق لأي رئيس أميركي أن تجرأ واتخذها من قبله ثانيا، خصوصا تلك القرارات والخطوات المتصلة بقضية فلسطين، تمثل بأسوئها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فكان نقلها بمثابة اعتراف بالقدس "عاصمة أبدية" لإسرائيل. وقبل ذلك، طرده لبعثة منظمة التحرير الفلسطينية وإغلاق مكتبها في الولايات المتحدة، وكذلك قراره بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، فضلا عن دعمه ضم الجولان المحتل. ثم جاءت ما أطلق عليه "صفقة القرن" ذروة التحول في الموقف الأميركي في ظل رئاسة ترامب الأولى تجاه قضية فلسطين، من مجرد الانحياز لإسرائيل إلى حد التماهي مع اليمين والصهيونية الدينية فيها، بحسب عزمي بشارة في كتابه "صفقة ترامب – نتنياهو"، وهذا ما عاد بشارة للتذكير به في مقابلته الأخيرة عن التحول في الموقف الأميركي بوصفه تحولا في جوهره على طابعه التاريخي لصالح إسرائيل.
يأتي انتخاب دونالد ترامب وعودته رئيسا للبيت الأبيض مجددا، ومعه معطى جديد هذه المرة متمثل في الحرب، حرب الإبادة التي تشنها حكومة نتنياهو على قطاع غزة ولبنان، وهي حرب تعتبرها الدولة العبرية لأول مرة ردا على هجوم تعرضت له في يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وقد صرّح ترامب في حملة ترشحه للانتخابات الأخيرة، عن نيته إقامة "السلام" أو حده من النزاعات بفرض تسويات من شأنها وقف الحروب. ولكنها تظل تصريحات قيلت في حملة انتخابية، هذا أولا؛ وثانيا: ما الذي تعنيه التسوية أو حتى السلام بمنطق ترامب وتصوره؟ وقد رأينا صفقته مع نتنياهو ("صفقة القرن") عام 2020، كمبادرة لـ"السلام من أجل الازدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، فهذا هو عنوان مبادرة ترامب أو صفقته التي لم تنظر إلى فلسطين إلا باعتبارها عقارا يجب إعادة ترتيب حيازته، وفق تصور أميركي.
إلى غاية دخوله البيت الأبيض رسميا، وذلك في العشرين من كانون الثاني/ يناير المقبل، يريد دونالد ترامب للمنطقة أن تكون طاولة نظيفة أو "موضبة"، كما صرّح ولوّح في حملته الانتخابية منبها نتنياهو وحكومته في إشارة إلى الحرب، التي لا يقصد ترامب من وقفها قبل دخوله البيت الأبيض رسميا إلا بما يعنيه تنظيف الطاولة، مع أن تنهي الحرب مهمتها بشروط إسرائيل طبعا وليس غير ذلك.
سيستغل نتنياهو وحكومته الأسابيع المقبلة، السابقة على دخول ترامب للبيت الأبيض رسميا، بالضغط عسكريا على غزة ولبنان بتكثيف وحشية الحرب ودمويتها، في محاولة يريد نتنياهو فيها تهيئة مناخ وشروط لتسوية يتماهى معه ترامب فيها على تحقيقها. وغير ذلك، فإن ترامب سيتماهى مع حكومة نتنياهو في استمرار الحرب إلى أن تحقق مهمتها بشروط إسرائيل، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الطاقم الاستشاري الذي بدأ يحيط به ترامب نفسه لرئاسته القادمة، والذي يبدو متحمسا لإسرائيل وأجنداتها اليمينية تجاه فلسطين والمنطقة، أكثر مما كان عليه طاقمه في رئاسته الأولى.
ليس من حل أو تسوية يقصدهما ترامب في رئاسته القادمة، غير تلك التي عرفناها منه في "اتفاقيات أبراهام" مع بعض الدولة العربية، التي أبدت استعدادا للسلام مع إسرائيل بدون سؤال حقوق الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته. وسيُستأنف ترامب ذلك، وقد تستجيب له الدول العربية تلك على الرغم مما سببته وما زالت تسببه حرب الإبادة التي تشنها حكومة نتنياهو على قطاع غزة وجنوبي لبنان. وأي تسوية يمكن لترامب تمكينها في المنطقة، ستكون من كيس الفلسطينيين وعلى حسابهم وحساب قضيتهم بالضرورة، فالصمت الإقليمي والعالمي إزاء حرب الإبادة المستمرة على غزة وأهلها، تشي بشكل كارثية التسويات الممكنة مستقبلا. كما من الأهمية بمكان التذكير بأنه حتى لو أرادت إدارة ترامب التغيير في سياستها تجاه المنطقة، فذلك غير مجدٍ ما لم يتغير المتأملون بالتغيير. فهل يتغير العرب بعد كل هذا القتل والدمار والخراب الذي ألحقته حكومة نتنياهو وجيش احتلالها في غزة وجنوبي لبنان؟ وإذا لم يتغير العرب كما نعرف من التجارب السابقة، فلماذا يتغير ترامب؟
في كتابه "فلسفة الفوضى: هل ينقذ الدمار البشرية؟" يخصص سلافوي جيجيك بعض فصوله لانطباعاته عن ترامب وطبائع هذا الأخير، الإدارية والسياسية، في فترة رئاسته الأولى، وقد تنبأ بعودة ترامب رئيسا في انتخابات هذا العام. ومما يقوله جيجيك في طرفة، وهو محب للطرائف وتوظيفها في نصوصه وأفكاره، بأن ترامب قد واظب على مدار ثلاثين عاما على زيارة صالون حلاقة بول مولي (Paul Mole) الواقع في الجانب الشرقي العلوي من مانهاتن. وقد ظلَّ صاحب الصالون، أدريان وود (Adrian Wood)، يقول جيجيك، يتذكر أن ترامب كان غاية في الدقة عند إعطاء تعليمات محددة للحلاقين في الصالون حول طريقه قصّ شعره، لم يكن يسمح لهم إطلاقا بإظهار موقع صلعته: "إنه مهووس بالسيطرة التامة، يملي عليك بدقة كيفية قصّ كل شعره في رأسه. قص هنا، وهناك، هذا يكفي. وعليك أن تمتثل تماما لما يقوله"، يقول وود صاحب الصالون.
ترامب غاية في تسلطه لا في دقته، فكم بالحري وهو قادم الآن لدورة رئاسية ثانية وأخيرة، ومتحرر من عبء الانتخابات والتطلع إلى دورة رئاسية أخرى؛ ما الذي سيغيّر الرجل وجهته وتوجهاته، إذا كان ما يزال غير مستعد للتنازل عن تسلطه على مقص حلاق شعر رأسه وهو تحت يديه؟
اقرأ/ي أيضًا | عقيدة بوش: حرب إسرائيل الديموغرافيّة