لم أستطع المرور سريعًا على حادثة استشهاد سيّدة فلسطينيّة بالقرب من سوق فراس وسط مدينة غزّة جرّاء قصف إسرائيليّ وقع إلى جوارها، وهي تجرّ عربة تضع فيها أطفالها.

مشهد ذهول الطفلة والطفل وهما في العربة ووالدتهما ملقاة على الأرض قاس للغاية.

عيون الأطفال لم تفض بكثير من الدمع على عكس المتوقّع، لكنّهما كانتا ممتلئتين بالغضب والحزن في آن.

مررت قبل أيّام بتصريح مهمّ ولافت لكريس سيدوتي، عضو لجنة الأمم المتّحدة المستقلّة للتحقيق في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، يتساءل فيه "عمّا سيفعله أطفال غزّة الّذين يبلغ عددهم مليونًا، بعد عشرين عامًا".

من واقع التجربة، ووفق المعطيات، وبغضّ النظر إذا اقتربنا من اتّفاق وقف إطلاق نار في عهد ترامب أم لا، فإنّ الاحتلال الإسرائيليّ زرع في أطفال غزّة كثيرًا من الحقد والكراهية، وحتميّة الردّ ولو بعد حين على قتل عائلاتهم في البيت، وأصدقائهم في الحيّ، معلّماتهم وزملائهم في المدرسة.

لطالما نادى الحقوقيّون بضرورة وأهمّيّة إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة، ورغم ذلك، يفلت الاحتلال من العقاب بفعل موازين القوى الّتي تؤثّر في منظومة القضاء والمحاكم الدوليّة. فما بالنا ونحن نرى تقارير ولجان واجتماعات مجلس أمن وقرارات لم تستطع مجتمعة أن تمنع قتل الأطفال في غزّة، أو توقّف شلّال الدم هناك.

إلى حين كتابة هذه الكلمات، ومهمّ من حيث التوقيت ذكر ذلك، لأنّ العدد يرتفع بين لحظة وأخرى، فإنّ الأطفال يمثّلون 44٪ من أعداد الضحايا الشهداء.

وبالاقتراب أكثر من الأرقام الّتي صدرت عن مؤسّسات الأمم المتّحدة في الأسبوع الأوّل من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر للعام الحاليّ، أي بعد عام وشهر تقريبًا على بداية الحرب، فإنّ الأطفال ما بين خمسة إلى تسعة أعوام هم الفئة العمريّة الأكبر من بين الشهداء الأطفال، يليهم الأطفال ما بين عشرة أعوام إلى أربعة عشر عامًا.

يسأل الأطفال من النازحين أسئلة يصعب الإجابة عنها، من قبيل متى سيعود أبي، أو متى ستعود أمّي؟ ما مصير أصدقائي ممّن انقطعت عنهم الأخبار؟ هل سنعود إلى منزلنا قريبًا؟ ما حال مقعدي الدراسيّ بعد أن تحوّلت المدرسة إلى مركز إيواء؟ هل أستاذي بخير؟ وكذلك معلّمتي؟ ماذا عن حينا؟ هل فعلًا داسته جرّافات الاحتلال وغيّرت معالمه؟ متى سيعود النازحون من الوسط إلى الشمال؟

في الواقع تبدو أسئلة الأطفال سهلة بريئة، لكن مع مرور الوقت وفقدان الأهل، أو من تبقّى منهم القدرة على الإجابة، تصبح أزمة هؤلاء الأطفال أكثر عمقًا.

تقول طفلة لوالدها المسجّى في ثلّاجات الموتى، وهي تودّعه في مستشفى شهداء الأقصى: "هل آتي لك بالدواء من الصيدليّة كي تعود إلينا مجدّدًا؟ لا تتركني وحدي".

تخاطب الطفلة والدها كأنّه حيّ أو مصاب، تتجاوز ولو للحظات فكرة أنّه ذهب ولن يعود. تعرف هذه الطفلة جيّدًا ما يعنيه فقدان الأب في الظروف العاديّة. فما يعني فقدانه وقت الحرب؟

تدّعي إسرائيل أنّها تستهدف قادة حماس وعناصرها، وعن هـذا الادّعاء سال حبر كثير، لكنّني سأذكر فرانشيسكا ألبانيز مقرّرة الأمم المتّحدة المستقلّة المعنيّة بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينيّة المحتلّة، حينما دعت إلى النظر في سلوك الاحتلال وسرديّاته الكاذبة عن حرب شنّتها للدفاع عن النفس، ووضعه في سياق أوسع باعتباره "أفعالًا عديدة تستهدف الفلسطينيّين بصفتهم (الشعب في مجمله) في كامل الأراضي الّتي يقيمون بها، تعزيزًا لطموحات إسرائيل السياسيّة في بسط السيادة على كامل فلسطين الخاضعة للانتداب سابقًا".

في المحصّلة، يصعب تقدير الوضع النفسيّ للأطفال، طالما استمرّت العوامل الّتي تؤجّج فيهم الاضطرابات خلال الحرب، مع الاهتمام بكلّ ما صدر ويصدر من تقارير ترصّد الآثار النفسيّة الأوّليّة للحرب على الأطفال.

فقد هؤلاء الأطفال الثقة بكلّ المنظّمات الدوليّة الّتي تدّعي وقوفها إلى جانب الطفل في مناطق النزاع والصراعات، كيف لا، وهم يقفون يوميًّا على طوابير الماء والمخابز من أجل الحصول على حاجتهم، وعلى طوابير تكيّات الطعام، وفي غالب الأحيان يعودون من دونه!

المستقبل لن يرسمه اتّفاق وقف إطلاق النار، ولن ترسمه محدّدات التقييم والاحتياجات الّتي ستنشرها لاحقًا تقارير ذات المنظّمات المتّهمة بالتقصير في الوقوف إلى جانب الضحايا وخاصّة الأطفال منهم.

المستقبل لن يكون من خلال فتح جزئيّ للمعابر، بينما تحوّلت شوارع غزّة إلى مقابر. المستقبل لن يجيب عنه سؤال الساسة عن "اليوم التالي في غزّة بعد الحرب". وما لم يستفق العالم من سباته العميق، ستدفع إسرائيل بسلوكها إلى مزيد من العنف وردّ الفعل.

الاحتلال سرق أرض أجداد هؤلاء الأطفال، اعتقل وقتل الآباء، دمّر منازلهم، حرمهم من أصدقائهم، وأذاقهم قسوة النوم قسرًا في خيمة في ليالي البرد والحرّ، من دون طعام وشراب.

ما هو حتمي الآن أنّه لا مكان للسلام في هذه الأرض والاحتلال عليها، لا رهان يمكن أن ينجح بمحاولات تمرير مخطّطات التهجير تارة، وتحويل القطاع إلى سنغافورة تارة أخرى، وبينهما ملفّ التطبيع الّذي بدأ، وربّما سيستمرّ ويتّسع.

النازحون لا يفكّرون كثيرًا الآن بهذه التبعات، لكن حينما تتوقّف الحرب، ستقشعرّ أبدانهم لما سيرونه من هول المشهد. وحينها سيتحوّل الأطفال إلى قنابل موقوتة. الزمن كفيل بانفجارها ما لم يكن هناك حلّ لقضيّتهم ينصفهم أوّلًا بوصفهم ضحايا، وثانيًا يعطيهم حقّهم بوصفهم أصحاب الأرض والقضيّة.