ربط بنيامين نتنياهو بين مذكّرة الاعتقال ضدّه من المحكمة الجنائيّة الدوليّة، ومحاكمة الضابط الفرنسيّ اليهوديّ درايفوس، كما ربط رئيس الكنيست، أمير أوحانا، بين تقديم لائحة اتّهام ضدّ متحدّث باسم نتنياهو بتسريب وثائق سرّيّة والإضرار بأمن إسرائيل وبين محاكمة درايفوس. أمس الخميس، استخدم اسم درايفوس مرّتين في بيانين رسميّين صادرين عن مكتب رئيس الحكومة ورئيس الكنيست.
هذا الربط، وتحديدًا في بيان مكتب نتنياهو، يعكس أوّلًا عقليّة الضحاويّة الّتي تعتمدها إسرائيل في علاقتها مع العالم، والربط الثاني يعكس التبخيس والاستهتار والشعبويّة في استخدام ملاحقة اليهود في أوروبا على خلفيّة لاساميّة، حتّى في مهاجمة هيئة قضائيّة إسرائيليّة، النيابة العامّة، وليس ضدّ المحكمة الدوليّة فحسب. لقد بتنا مع نتنياهو كدرايفوس (وقد جرت تبرأته لاحقا)، والمتحدّث باسمه درايفوس. هذا عبث، لكنّ بيان نتنياهو واستخدام درايفوس كمجاز لملاحقة اليهود واللاساميّة، يربط بين مذكّرتي الاعتقال ضدّ نتنياهو وغالانت والمسألة اليهوديّة (أستخدم هذا المصطلح مجازيا، وهو مصطلح أوروبي استخدم منذ القرن الثامن عشر بشأن مكانة وولاء اليهود، مرورا بأطروحات تلميذ هيغل، برونو باور وزميله كارل ماركس، وصولا للقرن العشرين). هو فعل ذلك، إذ ربط بين تهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة والتجويع والقتل المتعمّد وغيرها من الفظائع وبين المسألة اليهوديّة أو معاداة السامية.
صحيح أنّ قرار المحكمة الدوليّة هو قرار تاريخيّ، من جهة إقدام هيئة أمميّة بهذه المكانة بإنهاء الاستثنائيّة الإسرائيليّة على الرغم من كلّ الجرائم الّتي قامت بها ضدّ الفلسطينيّين والعرب منذ أكثر من سبعين عامًا، وهذه الاستثنائيّة الّتي جعلت إسرائيل "الابن المدلّل" للغرب، مرتبطة أساسًا بكون إسرائيل "دولة اليهود"، إذ إنّ اضطهاد وملاحقة وقتل اليهود جماعيًّا كان سمة النصف الأوّل للقرن العشرين، وبسببها، ولمنع تكرارها، شرّع الغرب قوانين دوليّة ضدّ الكراهية والعنصريّة والإبادة الجماعيّة وغيرها. لقد كان اضطهاد اليهود في الغرب في القرن العشرين الأرضيّة الأخلاقيّة الّتي قامت عليها مواثيق حقوق الإنسان والقوانين الدوليّة، واليوم، يُلاحق رئيس "دولة اليهود" بالقوانين ذاتها.
ومن العمى الأخلاقيّ وحتّى الغباء، أن يكتب صحافيّ إسرائيليّ مستثقف أنّ "ما هو مسموح للعالم محرّم على إسرائيل"، وذلك في تعليقه على صدور مذكّرتي الاعتقال. ففي إسرائيل يرون العالم بشكل مقلوب، تمامًا كما انعكس ذلك في أحداث ما بعد مباراة آيكس ومكابي تل أبيب في أمستردام. شتموا العرب ودعوا إلى قتل الأطفال، ومع "أوّل كفّ" لزعران إسرائيليّين في شوارع أمستردام، اعتبروا أنّ ما يحصل هو "بوغروم ضدّ اليهود"، واستدعيت من الذاكرة مصطلحات عن اضطهاد اليهود في القرن العشرين، وهبطت طائرات عسكريّة في هولندا لإنقاذ اليهود من "معسكرات اللاساميّة الجديدة".
تصرّ الصهيونيّة على ربط اليهود جميعًا بمشروعها ودولته الاستيطانيّة والاستعماريّة والعدوانيّة، فيما لم تربط مذكّرتي الاعتقال بين الجرائم المرتكبة في غزّة واليهود مطلقًا، بل اتّهمت شخصيّتين مسؤوليّتين محدّدتين عن تلك الجرائم، لكنّ نتنياهو أصرّ على ربط المذكّرتين بدرايفوس، بما يحمله من رمزيّة من اضطهاد وملاحقة لليهود. لذلك، فإنّ صدور المذكّرتين استنادًا إلى القانون والمواثيق الدوليّة الّتي تأسّست على خلفيّة اضطهاد وملاحقة وقتل اليهود في القرن العشرين، والربط بينها وبين درايفوس، يظهر حجم الأذى الّذي أحدثته الصهيونيّة ودولتها بالمسألة اليهوديّة، ويظهر أنّ الحصانة الدوليّة الغربيّة الّتي تمتّعت بها "دولة اليهود"، والدعم اللامحدود، لم تعد قادرة على حجب الجرائم غير المسبوقة في غزّة.
ارتبطت المسألة اليهوديّة في القرن العشرين بالأخلاق والإنسانيّة، لكنّ ما فعلته إسرائيل في قطاع غزّة خلال عام، واعتبارها أنّ ما حدث في السابع من أكتوبر جريمة ضدّ اليهود هي الأشنع منذ الهولوكوست، هو إصرار على ربط الجرائم ضدّ الفلسطينيّين بالمسألة اليهوديّة، وهذا تشويه للتاريخ، فلم تقم إسرائيل بسبب الهولوكوست، وهي لا تمثّل كلّ اليهود في العالم، فمنهم كثر يناهضونها ويناهضون سياساتها وممارستها، وحتّى إسرائيليّين، بل أقيمت في سياق استعماريّ غربيّ ظلّ معاديًا لليهود والمسلمين ولكلّ ما هو ليس غربيًّا.
مشكلة الصهيونيّة أنّها اعتبرت قضية اليهود في أوروبا شأنًا يهوديًّا حصريًا، وعالجتها بمشروع استيطانيّ عدوانيّ أعمى أخلاقيًّا، وتماشى معها الغرب في ذلك، على حساب العرب والفلسطينيّين وحقوقهم، واليوم، تصدر محكمة دوليّة مذكّرتي اعتقال لمسؤولين، غير شرقيّين، وليسوا من العالم الثالث لأوّل مرّة، وهما مسؤولان إسرائيليّان. قد تكون رسالة المحكمة من خلال المذكّرتين ليست إدانة لليهود، بقدر ما هي فصل للجرائم في غزّة عن "المسألة اليهوديّة"، وبأنّه قد حان الوقت لمحاسبة إسرائيل بكونها دولة، وليست أمّة تمثّل ضحايا أبشع جرائم في القرن العشرين. الإصرار على الربط بين المذكّرتين ومعاداة السامية ودرايفوس هو غباء إسرائيليّ ناتج عن عمى أخلاقيّ وتاريخيّ، بل قلّ غطرسة الابن المدلّل.
هل تصحّ المقاربة بين صدور مذكّرتي الاعتقال لأوّل مرّة ضدّ مسؤولين غربيّين، هما إسرائيليّان، وبين بدايات فرض العقوبات على نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا بحيث تحوّل إسرائيل إلى منبوذة دوليًّا؟ ربّما، لكنّ حاليًّا، أكبر داعمي إسرائيل ونتنياهو بعد صدور مذكّرتي الاعتقال هم على شاكلة ترامب وأوربان الهنغاري، وهو دعم لا بد أن "المسألة اليهوديّة" تخجل به، فكلّ إناء بما فيه ينضح.
اقرأ/ي أيضًا | أزمنة موازية