يعيش المجتمع الإسرائيليّ، منذ بداية حرب الإبادة وحتّى يومنا هذا، حالة جنون وعنجهيّة واستعلاء غير مسبوقة، وغالب الظنّ أنّها تحتاج كبار علماء النفس والمختصّين لفهم -إذا كان ذلك ممكنًا- كلّ هذا الكمّ من الجنون والدمويّة والاستعلاء والفوقيّة في مجتمع واحد، واستوديو تلفزيونيّ وصحيفة واحدة، وهو ما يجمعهم بكونهم قطيعًا، ولا يخجلون من هذا الدور، سواء كانوا صحفيّين أو محلّلين أو أكاديميّين أو غير ذلك.
من يتابع الإعلام الإسرائيليّ على سبيل المثال، وهذه مهمّة صعبة جدًّا ولها أثر نفسيّ كبير على من يقوم بهذا الفعل، يلمس بشكل واضح أنّ كلّ ما يقود من يتحدّثون هناك هو الانتقام، حيث لا يُذكر حتّى الدم الفلسطينيّ، ولا تعداد الشهداء والقتلى، ولا الجرحى ولا حجم المجازر ولا الكارثة الإنسانيّة والتجويع والجرائم اليوميّة. كلّ هذا لا يحصل، وتتلخّص النغمة الأساسيّة في الانتقام والمزيد من الدم، وتوسيع الجرائم وفتح جبهات أخرى، بقناعة تامّة أنّه لن يقدر عليهم أحد، حتّى لا تستطيع أن تميّز بين قناة وقناة وضيف وآخر. كلّهم "جوقة" تحوم حول نفسها، ولا ترى إلّا الدم.
وهم وسراب - من يسمع الإسرائيليّين ويطّلع على آرائهم، يرى أنّ بداخلهم قناعة تامّة أنّهم هزموا الفلسطينيّين شرّ هزيمة، وأنّ الآتي أعظم وأكبر، وكلّ من يقول لا، سوف يدفع الثمن بالضرورة، والثمن هنا واحد ووحيد، ألا وهو قتل وتهجير واستهداف وحسرة، وهم على قناعة بأنّ هذا الشعب بعد أكثر مائة عام من النضال، سوف يتنازل عن حقّه في وطنه، ويرفع الراية البيضاء، ويشكر إسرائيل صبحًا ومساء على أنّها تبقيه على "قيد الحياة"، هذا تفكيرهم وهذا جنونهم، جاهلين أنّ هذا الشعب رغم كلّ ما يعيشه وعاشه من ويلات ومآسي، لم يكن الاستسلام خياره يومًا، ولن يكون.
دمويّة وعنجهيّة - هذا أكثر ما يبرز إسرائيليًّا على مستوى المجتمع والقيادة، ليس الدمويّة والتفاخر بسفك الدم فحسب، بل هي تلك العنجهيّة القصوى والاستعلاء الّذي لم تعهده إلّا في كتب التاريخ، حيث هؤلاء الّذين طغوا وتجبّروا وعاثوا بالأرض فسادًا، وظنّوا أنّهم قادرون على كلّ شيء، ولم يحسبوا حسابًا لأحد، وكانت نهايتهم مقيتة ومذلّة ومهينة، حتّى أصبحوا رمزًا ودرسًا، بأنّ للقوّة حدودًا، ولا أحد، كائنًا من كان، بإمكانه أن يطغى مهما كانت قوّته، دون أن يدفع ثمنًا يومًا ما.
أفضل مثالين لتلك العنجهيّة هما المطلوبان اللذان صدرت بحقّهم أوامر اعتقال؛ رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الحرب السابق المقال يوآف غالانت، حيث تبارز الاثنان منذ بداية حرب الإبادة على من يهدّد أكثر، ويتفاخر بكونه يريد توسيع دائرة الحرب، ويرتكب عددًا أكبر من الجرائم، حتّى بلغ الخلاف بينهم أشدّه، واضطرّ نتنياهو لإقالته بسبب خلافات أهمّها وأعمقها أنّ هناك من تجاوزه في العنجهيّة والدمويّة، وحاز شعبيّة كبيرة إسرائيليًّا، أصبحت تهدّده وتهدّد تفوّقه في تلك العنجهيّة الإسرائيليّة الّتي يطرحها نتنياهو بلغة متينة وكريزما عالية، تنبع من تنشئة المدرسة الأميركيّة المتفوّقة في شرح الإبادة وشرعنة الجرائم مهما كانت شدّتها.
مأتمًا وعويلًا - من اطّلع على وسائل الإعلام الإسرائيليّة يوم أمس، إثر إصدار مذكّرة الاعتقال ضدّ نتنياهو وغالانت، من قبل المحكمة الجنائيّة الدوليّة، سواء المتلفزة أو المكتوبة، يلمس فجأة تباكيًا وذعرًا وخوفًا وأجواء حداد تسود استوديوهاتهم، ولا وسيلة للدفاع عن أنفسهم إلّا بإطلاق تهم "اللاسامية" ودعم الإرهاب لمحكمة الجنايات في لاهاي، ولعلّها لحظة هامّة تضع حدًّا لتلك العنجهيّة والغطرسة الإسرائيليّة، على أمل أن يستوعبوا أنّ للقوّة حدودًا مهما بلغت ذروتها.
هذا القرار هامّ، ليس فقط على المستوى السياسيّ والقانونيّ بإدانة للجرائم الإسرائيليّة المستمرّة الّتي تهدف لإبادة الشعب الفلسطينيّ في غزّة، بالإضافة إلى كافّة الممارسات الإجراميّة في الضفّة والقدس وتوسيع الاستيطان، بل هي حدّ للغطرسة الإسرائيليّة والعنجهيّة وضربة معنويّة لمن ظنّوا أنّ بإمكانهم الاستمرار بفعل وتشجيع كلّ هذه الجرائم دون أيّ رادع ولا حسيب ولا رقيب.
قرار تاريخيّ ليس أقلّ من ذلك، ولكنّه سيبقى حبرًا على ورق إذا لم يوقف معاناة أهلنا في غزّة ولبنان، ويضع حدًّا لتلك العنجهيّة والأفكار المجنونة والأحلام الشيطانيّة باستيطان غزّة وتهجير وتركيع أهلها وتجويع أطفالها، وهنا، لن يكون إمكانيّة للمراكمة والاستفادة من هذا القرار الهامّ دون مشروع فلسطينيّ حقيقيّ، يجابه أكاذيب وخزعبلات "الهسباراة" الّتي تعاني أزمة جدّيّة تدخلها إلى حالة طوارئ تعبّر عن عمق الأزمة الّتي تعيشها.