انزعج ملايين من المسلمين، بل وفوجئوا ممّا جرى عرضه في مهرجان الرياض للترفيه في هذا العام الّذي بدأ في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024 حتّى أيّار/ مايو 2025، والّذي كشف من خلاله عن الوجه الجديد للسعوديّة، وأصبح يشكّل انعطافة حادّة في علاقة المسلمين بالمملكة السعوديّة الّتي جرى تكريسها كرمز دينيّ مرتبط ارتباطًا وثيقًا في عقيدة المسلمين، حتّى ارتبطت العقيدة لدى مئات ملايين من البسطاء بأنّ النظام كرّس جهودًا كبيرة على مدار عقود لنشر قيم الإسلام وربط ملك آل سعود بالكعبة المشرّفة قبلة المسلمين، والمسجد النبويّ الشريف في المدينة المنوّرة، وهي أرض الحجاز الّتي انطلقت منها الرسالة المحمّديّة.
وكان لقب خادم الحرمين الشريفين قد بدأه الناصر صلاح الدين الأيّوبي، وامتدّ حتّى السلطان العثمانيّ سليم الأوّل وتوقّف. ثمّ استؤنف في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، وآخرهم الملك سلمان بن عبد العزيز. ما جعل مئات ملايين من المسلمين، وخصوصًا من غير العرب، ينظرون بتقدير للعائلة المالكة، ونظر العرب والمسلمون عمومًا بتفهّم لتطبيق الشريعة في أحكام الحياة اليوميّة للناس، الّتي وصل بعضها إلى الإعدام أو السجن الطويل أو التعزير والجلد وغيرها، كونها بلادًا مقدّسة.
كذلك فقد ظنّ ملايين منهم أنّ المملكة تموّل مشاريع سياسيّة من منطلقات عقائديّة لنشر الإسلام في العالم، ووقع ملايين منهم ضحايا لهذا الفكر في دول عربيّة وإسلاميّة تحت شعار حماية المسلمين ونشر الإسلام.
وقد ربط عشرات الملايين بين قدسيّة الكعبة والمسجد النبويّ والنظام، وأيّدت جماهير واسعة قمع أيّ استعراضات سياسيّة خلال طقوس العمرة أو الحجّ، وذلك أنّ المكان هو حياديّ ومقدّس وخالص لوجه اللّه.
ينظر المسلمون إلى الكعبة المشرّفة بقداسة ورهبة؛ لأنّ زيّاتها فرض على المسلم القادر، ويتوجّهون إليها في صلاتهم.
أمّا القرآن الكريم، فيقدّسه المسلمون وينقلون آياته في كلّ مناسباتهم، وفي حياتهم اليوميّة وصلواتهم، ويعتبرونه مرجعيّتهم الشرعيّة في أحكام اجتماعيّة كثيرة، وأكثرهم يتطهّرون قبل لمسه وتقليب صفحاته لقدسيّته.
قادت السعوديّة بالفكر الوهّابيّ والمرجعيّات المتشدّدة في الإسلام مثل ابن تيمية حقبة من التشدّد، الّذي اتّخذ ركيزة لشرعيّة حكمها، وكرسوا الآية الكريمة "يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، معتبرين أنّهم هم أولو أمر المسلمين في بلاد الحجاز، ومن يعارضهم سياسيًّا، فقد اعترض على شرع اللّه وكفر، وتصل عقوبته إلى الإعدام أو السجن لمدّة طويلة.
وقد دفع عشرات ملايين المسلمين ثمن هذا التشدّد الّذي مولته أموال السعوديّة في دول كثيرة مثل أفغانستان وسورية واليمن والعراق وفي غيرها من الدول العربيّة والإسلاميّة، وحرف ثورات الربيع العربيّ عن مسارها وأهدافها، ما زال يعاني منه المسلمون في كلّ مكان.
في الوقت ذاته تتشدّد قوانين المملكة في الحياة الاجتماعيّة، وفي الفنون عامّة مثل الرسم والنحت والسينما وغيرها من الفنون الجميلة. وأقيمت منذ العام 1940 ما يسمّى "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهي شرطة دينيّة، يطوف أعضاؤها في الأسواق والأمكنة العامّة لمنع مظاهر "المنكر"، مثل أمر الناس في التوجّه إلى الصلاة في وقتها، وإعطاء ملاحظات للفتيات والنساء إذا ما ظهر شيء من شعورهنّ، أو ظهر طلاء على أظفارهنّ، أو رائحة عطر منهنّ، ومنع الاختلاط والتحقّق من هويّة الأزواج في مطاعم أو فنادق وأمكنة عامّة، كي لا تقع فاحشة وغيرها من محرّمات.
كلّ هذا قادته السعوديّة، وفجأة تظهر غير ما تضمر، ويعرض مجسّم للكعبة المشرّفة وحوله راقصون وراقصات في حدّ أدنى من الملابس على الطريقة الأوروبّيّة الأميركيّة الاستعراضيّة، وفرقة راب تغنّي على إيقاع صاخب سورة "القيامة" من القرآن الكريم.
وهذا تناقض فاحش بين الخشوع والتقديس المتراكم وهذه الخلاعة.
وهذا الاستعراض أشدّ وطأة بكثير، ولا يقارن بالكاريكاتورات المسيئة للرسول الّتي استفزّت المسلمين، والّتي نشرت في صحف أوروبّيّة قبل سنوات.
لقد آن الأوان للشعب السعوديّ أن ينعم بالحرّيّة والانفتاح، لكنّ ما جرى في مهرجان الرياض ليس انفتاحًا ولا حرّيّة.
فإذا كان حكّام المملكة معنيّين بالانفتاح على العالم المعاصر، فالطريق ليس بتحطيم المقدس. هناك مقدّسات أخرى كثيرة أولى بالانفتاح عليها وأن تمارس، مثل حرّيّة التعبير والتعدّديّة السياسيّة والحياة الحزبيّة والتخفيف من مركزيّة السلطة، وتوزيع المسؤوليّات والثروات والعدالة الاجتماعيّة والنظام الصحّيّ وحقوق العمّال والنساء والأطفال والفنّانين وغيرها الكثير ممّا يمكن له أن يعكس انفتاحًا حقيقًا على العالم المعاصر، وليس قناعًا من الانفتاح الكاذب.
ما حدث في الرياض مهزلة وإمساك للحرّيّة من ذيلها وترك الرأس، لأنّه في السعوديّة الّتي تزعم وتنشر التشدّد في الأمور الدينيّة، من الممكن أن يكون ما جرى طاعة واسترضاء لأولي الأمر في أميركا والغرب.
يجري هذا الاستهتار في الوقت الّذي يعمل الاحتلال الإسرائيليّ بصورة منهجيّة على هدم مئات المساجد والمآذن، في رسالة هدفها زعزعة المعتقد والتشكيك بالقيم المتوارثة الّتي تشكّل المخزن الروحيّ والقوّة للمسلمين، مثل قدسيّة المسجد الأقصى وقيمة الشهيد والشهادة والرضى بقضاء اللّه وغيرها. كلّ هذا الاستهتار الفاحش يجري في بلد الحرمين، في وقت تجري فيها حرب إبادة على شعب بيت المقدس وهي رسالة خطيرة، وأعتقد أنّ إسقاطاتها لن تجلب خيرًا على النظام السعوديّ.
طبعًا لسنا ضدّ الفنون، وهذه ليست المرّة الأولى الّتي يجري التعبير عن قدسيّة الكعبة فنّيًّا، فقد غنّت أمّ كلثوم (الثلاثيّة المقدّسة) ورفع الأذان فيها على المسرح، وقرعت أجراس الكنائس، وقدّم هذا بفنّ وذوق رفيع واحترام وخشوع كما يليق به.
لا شكّ أنّ شعب بلاد الحرمين متعطّش إلى الحرّيّة في أشكالها وتعبيراتها المختلفة الشخصيّة والعامّة بعد عقود طويلة من الكبت، حتّى بات الوقوف إلى جانب مغنّ وضمّه إلى الصدر والتقاط صورة معه أمنية كبيرة للنساء والفتيات السعوديّات، وهو تقليد سطحيّ للمسارح العربيّة والأجنبيّة، وذلك بعدما كان يجري التحقيق معهنّ وتعزيرهنّ لأتفه الأسباب. ما قام به النظام في الرياض ليس انفتاحًا ولا هو قفزة عالية إلى الحرّيّة، بل قفزة إلى هوّة من الفراغ القيميّ والأخلاقيّ إلى جانب الموقف السياسيّ المعادي لحرّيّة الشعوب العربيّة.
اقرأ/ي أيضًا | ما العمل أمام كل هذا التوحش!