يوم الأحد من الأسبوع الماضي، بدأت تدرك إيران أنّ نظام بشّار الأسد في خطر فعليّ، وأنّ سقوطه يكاد يكون محتومًا. التقى وزير الخارجيّة الإيرانيّ ببشّار الأسد في ذاك اليوم، وصرّح أمس للتلفزيون الإيرانيّ بأنّهما، عراقجي والأسد، تفاجآ من أداء الجيش السوريّ في مواجهة قوّات المعارضة. بدا كأنّ الجيش أو أفراده غير قادرين وغير معنيّين في المواجهة مع قوّات المعارضة، إلّا أنّ أكثر من 900 سوريّ قتلوا في الأسبوعين الأخيرين، معظمهم نتيجة القصف الروسيّ والنظام على إدلب والمناطق الّتي سيطرت عليها المعارضة.
ومنذ ذاك الأحد وحتّى يوم السبت الماضي، أدرك الروس والإيرانيّون أنّ سقوط الأسد بات مسألة وقت، فسعوا إلى تقليص الأضرار في المصالح لكلّ دولة في سوريّة. خلال ذاك الأسبوع بدأت إيران بسحب قوّاتها ومليشياتها من سوريّة، بعد أيّام من تقارير عن وصول ضابط إيرانيّ رفيع مطلع الشهر الجاري لدمشق، العميد جواد غفاري، وهو من كبار قادة المستشارين العسكريّين الإيرانيّين في سوريّة، في محاولة لصدّ هجوم قوّات المعارضة، لكن دون جدوى.
خلال هذه الفترة، بدا وكأنّ الجيش السوريّ في حالة انكفاء عن المواجهة مع قوّات المعارضة؛ ففي حمص مثلًا، لم تجر معارك ضارية، بل الجيش انسحب يوم السبت الماضي من المدينة دون مواجهة، ما أتاح لقوّات المعارضة الدخول والسيطرة على المدينة، بالتزامن مع هجومها على ريف دمشق، ومن ثمّ هجومها على العاصمة دون مقاومة تذكر من قوّات الجيش أو المليشيات، بل تمكّنت من السيطرة على بلدة القصير الّتي كانت تعتبر معقلًا لحزب اللّه، في موازاة انسحاب قوّات حزب اللّه من المنطقة وعودتها إلى ما خلف الحدود اللبنانيّة القريبة.
نشرت وكالة "بلومبيرغ" يوم السبت، أي بالتزامن مع تقدّم قوّات المعارضة نحو دمشق، أنّ الأسد قدّم مقترحًا للتسوية يتيح له استمرار حكمه في المناطق الّتي ما زال يسيطر عليها، مثل دمشق، والساحل، أي المناطق ذات الأغلبيّة العلويّة. لكن كان ذلك "لعبًا في الوقت بدل الضائع".
كانت روسيا وإيران تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذ وتقليص الأضرار في محادثات أستانا مع تركيّا في اليوم ذاته، السبت، في العاصمة القطريّة الدوحة. جرى اجتماع أستانا غداة لقاء جمع وزراء خارجيّة العراق وسوريّة وإيران في بغداد. لم تتشجّع الحكومة العراقيّة للتدخّل عسكريًّا في سوريّة لإنقاذ الأسد.
انتقلت المحادثات للدوحة، فعدا عن اجتماع أستانا الثلاثيّ، عقد اجتماع آخر شمل دول أستانا، روسيا وإيران وتركيّا، وخمس دول عربيّة، السعوديّة ومصر، والعراق وقطر والأردنّ. خرج هذا الاجتماع ببيان، مساء السبت، قال فيه المجتمعون، إنّ "استمرار الأزمة السوريّة يشكّل تطوّرًا خطيرًا على سلامة البلاد والأمن الإقليميّ والدوليّ، الأمر الّذي يستوجب سعي كافّة الأطراف إلى إيجاد حلّ سياسيّ للأزمة السوريّة، يؤدّي إلى وقف العمليّات العسكريّة وحماية المدنيّين من تداعيات هذه الأزمة".
وشدّد البيان على ضرورة وقف العمليّات العسكريّة تمهيدًا لإطلاق عمليّة سياسيّة جامعة، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، تضع حدًّا للتصعيد العسكريّ الّذي يقود إلى سفك دماء المزيد من الأبرياء العزل وإطالة أمد الأزمة، وتحفظ وحدة وسيادة سوريّة واستقلالها وسلامة أراضيها، وتحميها من الانزلاق إلى الفوضى والإرهاب، وتضمّن العودة الطوعيّة للّاجئين والنازحين.
وشدّد البيان على استمرار التشاور والتنسيق الوثيق بينهم من أجل المساهمة الفاعلة في إيجاد حلّ سياسيّ للأزمة السوريّة، بما يحقّق تطلّعات الشعب السوريّ في الأمن والاستقرار والعدالة، فضلًا عن تعزيز الجهود الرامية إلى توطيد الأمن والاستقرار في المنطقة.
كانت ساعة إصدار البيان لحظة تاريخيّة ومفصليّة، تزامنت مع تقدّم قوّات المعارضة نحو العاصمة دمشق دون مقاومة من الجيش السوريّ، وتوارد أبناء عن فرار الأسد "إلى جهة غير معلومة".
بالتزامن، خرج رئيس الحكومة السوريّة محمّد الجلالي، فجر الأحد، ليعلن أنّه مستعدّ "للتعاون" مع أيّ قيادة يختارها الشعب ولأيّ إجراءات "تسليم" للسلطة، وأنّه "سأكون في مجلس الوزراء صباحًا ومستعدًّا لأيّ إجراءات للتسليم"، فيما دعا قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (الجولاني)، مقاتليه إلى عدم الاقتراب من المؤسّسات العامّة، مؤكّدًا أنّها ستبقى تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتّى "تسليمها رسميًّا".
في صباح اليوم التالي، أعلنت موسكو أنّها منحت الأسد وأسرته اللجوء السياسيّ لدواع إنسانيّة، وأنّها تجري اتّصالات مع قوى المعارضة – الحكم الجديد، وكشف مصدر في الكرملين لوكالة "نوفوستي" الحكوميّة إجراء موسكو اتّصالات مع ممثّلي المعارضة المسلّحة، الّذين وعدوا بسلامة القواعد العسكريّة والمباني الدبلوماسيّة الروسيّة على أراضي الجمهوريّة.
وأضاف المصدر أنّه "حثّت روسيا دومًا على البحث عن حلّ سياسيّ لتسوية الأزمة السوريّة. ننطلق من ضرورة استئناف المفاوضات تحت رعاية الأمم المتّحدة". وأعرب عن أمل موسكو في مواصلة الحوار السياسيّ من أجل مصلحة الشعب السوريّ، والدفع بالعلاقات الثنائيّة بين روسيا وسوريّة.
تزامن التحوّل في الموقف الروسيّ تجاه المعارضة مع تحوّل مواقف الدول العربيّة الّتي كانت داعمة للأسد حتّى صباح السبت، وفي مساء السبت دفعت نحو تسوية سياسيّة مع المعارضة، وسلّمت بهزيمة الأسد، وكذلك الحال مع إيران، الّتي سحبت قوّاتها وقوّات حزب اللّه في اليوم ذاتها، بعدما تلقّت تطمينات بعدم المساس بالمراقد الشيعيّة، تمامًا مثل حصول روسيا على تطمينات بعدم استهداف قوّاتها.
كان لافتًا هذا التحوّل في مواقف روسيا وإيران ودول عربيّة، وتسليم جنود الجيش السوريّ أسلحتهم في دمشق بعد انسحابهم من حمص وتسليمها للمعارضة.
في السنوات القليلة الماضية، وبعد قمع روسيا وإيران لثورة السوريّين، استشعر الأسد بأنّه منتصر، وأهمل الجيش وتطويره، فقبل أيّام من سقوطه أعلن زيادة أجر العسكر بخمسين في المئة، أي ما يعادل عشرة دولارات، وهذا يعكس أنّ اتّكاءه لحماية على حماية نظامه كان على المليشيات المدعومة إيرانيّا وقوّات فاغنر الروسيّة المرتزقة والطائرات الروسيّة.
لكن يوم السبت الماضي، أدركت جميع الأطراف الّتي اجتمعت في الدوحة أن لا أحد بمقدوره منع سقوط الأسد، فإذا كان جيشه غير قادر على ذلك، فلماذا تدفع إيران وروسيا بقوّاتهما وهما المنشغلتان في جبهات أخرى، روسيا في أوكرانيا، وإيران في الدفاع عن نفسها بعد الضربات الّتي وجّهتها إسرائيل لمحورها.
كان الحلّ ساعتها بالتسليم بأنّ الأمر قضي، وأنّ سقوط الأسد بات محتومًا، فخروجه من سوريّة سيقلّص الأضرار بالنسبة لروسيا وإيران على الرغم من الاستثمار الكبير في الأسد، الّذي بدا أنّه لم يخسر شعبه، بل أيضًا جيشه.
خلال اجتماع الدول العربيّة الخمس بروسيا وإيران وتركيّا في الدوحة كان واضحًا أنّ الحديث ليس عن مجرّد تسوية سياسيّة في سوريّة، بل عن اليوم التالي دون الأسد.
فأمام تقدّم قوّات المعارضة السريع وانكفاء الجيش السوريّ عن المواجهة الحقيقيّة، كانت خيارات روسيا وإيران وباقي الدول العربيّة ذات صلة محدودة، وأفضلها التوافق على اليوم التالي دون الأسد.