شهدت بلادنا في منتصف القرن العشرين تجارب ديمقراطية أثارت الأمل في مستقبل حر وديمقراطي. لكن هذه التجارب لم تدم طويلًا، إذ تعرضت لانقلابات عسكرية وتدخلات خارجية أعادت تشكيل الأنظمة السياسية.

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

في هذا المقال، أسلط الضوء على التجارب الديمقراطية في الخمسينيات في سورية والعراق وإيران، ومن ثم في تونس ومصر حديثا بعد الربيع العربي، لفهم تأثير التدخلات الخارجية على التحول إلى أنظمة استبدادية.

الديمقراطية السورية في الخمسينيات

شهدت سورية خلال الخمسينيات فترة ديمقراطية جاءت عقب انتهاء الانتداب الفرنسي وسقوط الأنظمة العسكرية التي هيمنت على السنوات الأولى من الاستقلال. وبعد نيلها الاستقلال الكامل عام 1946، عانت سورية من حالة من عدم الاستقرار السياسي، تجلت في سلسلة من الانقلابات، كان أبرزها انقلاب عام 1949 بقيادة العقيد حسني الزعيم، الذي أدى إلى دورة من الحكومات العسكرية قصيرة الأمد. في عام 1954، ومع سقوط ديكتاتورية أديب الشيشكلي العسكرية، انتقلت سورية إلى ديمقراطية برلمانية نابضة بالحياة استمرت حتى عام 1958. وتُعتبر هذه الفترة ذروة الديمقراطية في تاريخ سورية الحديث، حيث تميزت بالحريات السياسية، والأحزاب النشطة، والانتخابات، وحرية الصحافة.

ومن الجدير بالذكر أن سورية منحت النساء حق التصويت خلال هذه الفترة، وهو إنجاز تحقق قبل العديد من الدول الغربية، ما يعكس مدى التقدم الذي شهدته البلاد آنذاك.

عقب هذه الحقبة، جاءت الوحدة مع مصر عام 1958 لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. ورغم أن الانفصال عن مصر لاحقًا كان له أسباب داخلية كثيرة لن نخوض بها الآن، إلا أن دور الانفصاليين المدعومين من الولايات المتحدة كان عاملًا حاسمًا. وقد عكس ذلك مخاوف الغرب من أن مشروع الوحدة العربية والديمقراطية في المنطقة يمثل تهديدًا كبيرًا لمصالحهم.

وفقًا لما ورد في كتاب "The Game of Nations" للعميل السابق في وكالة المخابرات المركزية مايلز كوبلاند، لعبت الوكالة دورًا رئيسيًا في زعزعة استقرار النظام السوري خلال تلك الحقبة. ويشير الكتاب إلى أن الولايات المتحدة دعمت انقلابًا عسكريًا عام 1954 بهدف منع بروز قوى ديمقراطية معادية للمصالح الغربية. هذه التدخلات مهّدت الطريق لاحقًا لصعود الأنظمة الاستبدادية، بما في ذلك نظام الأسد في السبعينيات.

التجربة الديمقراطية في العراق

لم تكن سورية وحدها في مسارها الديمقراطي في تلك الفترة، فقد شهد العراق تجارب ديمقراطية كذلك. في عام 1954، جرت انتخابات حرة وشهدت البلاد انفتاحًا سياسيًا نسبيا وتمثيلا نسائيا في البرلمان، حيث كان النظام الملكي يتيح هامشًا من الحريات السياسية. لكن هذا المسار لم يستمر طويلًا، حيث أطاح انقلاب عام 1958 بالنظام الملكي وبدأ عهد جديد من الحكم العسكري.

تشير وثائق أرشيفية جرى الكشف عنها في السفارة الأميركية في طهران بعد ثورة 1979 إلى أن الولايات المتحدة كانت ضالعة في دعم انقلابات بالمنطقة بهدف إحباط صعود قوى سياسية تُعتبر تهديدًا لمصالحها. وفقًا لما ورد في كتاب "The Game of Nations" وما أكده ستيف كول في "The Achilles Trap"، بدأ صدام حسين حياته كحليف لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، حيث تلقى دعمًا لتنفيذ عمليات اغتيال استهدفت أكثر من 250 شخصية من النشطاء والمثقفين اليساريين.

هذا التحالف مع الغرب كان جزءًا من إستراتيجية لقمع الحركات الديمقراطية والشيوعية في المنطقة. لاحقًا، تحوّل صدام إلى ديكتاتور قمعي، ما أدى إلى عقود من الحروب والانتهاكات التي زعزعت استقرار العراق والمنطقة بأسرها.

التجربة الديمقراطية في إيران

شهدت إيران تجربة ديمقراطية مميزة مع تولي محمد مصدق رئاسة الوزراء في أوائل الخمسينيات. قاد مصدق حركة وطنية لتأميم النفط الإيراني واستقلال القرار السياسي، ما أثار غضب القوى الغربية. وفقًا لكتاب "The Coup: 1953, the CIA, and the Roots of Modern U.S.-Iranian Relations" لإيرفاند أبراهاميان، كان انقلاب عام 1953 المعروف باسم "عملية أجاكس" مدعومًا بشكل مباشر من المخابرات الأميركية والبريطانية بهدف إعادة الشاه إلى السلطة.

تشير الوثائق المنشورة في كتاب "Zendebad, Shah" إلى أن العملية كانت تهدف إلى إحباط محاولات مصدق لتأميم النفط. هذه التدخلات أسست لحقبة طويلة من حكم الشاه الاستبدادي المدعوم من الغرب، الذي أدى لاحقًا إلى ثورة عام 1979 والإطاحة بالنظام الملكي.

خلال الثورة الإيرانية عام 1979، كان على الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية (CIA) الاختيار بين دعم الإسلاميين أو اليساريين المقربين من الاتحاد السوفيتي. وفقًا للعديد من الباحثين، دعمت الولايات المتحدة الإسلاميين بقيادة آية الله الخميني الذي عاد من باريس إلى طهران على متن طائرة فرنسية لضمان عدم انحياز الثورة بالكامل إلى السوفييت. بعد استقرار النظام الإسلامي، بدأت حملة تصفية ممنهجة ضد اليساريين والمعارضين الآخرين، هذه الحملة تضمنت اغتيالات واعتقالات واسعة النطاق، مما قضى على القوى اليسارية التي كان يُنظر إليها كتهديد للمصالح الأميركية.

الربيع العربي والتجارب التونسية والمصرية

بعد الربيع العربي في عام 2011، برزت تونس ومصر كتجارب واعدة على طريق التحول الديمقراطي. في تونس، قادت الثورة الشعبية إلى سقوط نظام بن علي، وبدأت البلاد مسارًا سياسيًا جديدًا أسفر عن انتخابات ديمقراطية وصياغة دستور جديد في عام 2014. كانت تونس المثال الأبرز على نجاح التحول الديمقراطي في المنطقة، لكنها لم تكن بمنأى عن الضغوط الخارجية التي أثرت بشكل كبير على استقرارها الاقتصادي والسياسي.

وفقًا لما ذكره الرئيس التونسي الأسبق، المنصف المرزوقي، في محاضرة له بجامعة هارفرد، فإن تونس عانت من حصار اقتصادي فرضه الغرب، وعلى رأسه الاتحاد الأوروبي. أشار المرزوقي إلى أن هذا الحصار كان بمثابة عقاب على اختيار الشعب التونسي للديمقراطية، رغم أن الاتحاد الأوروبي لطالما تغنى بقيم الديمقراطية ودعمها. أدى هذا الحصار إلى تعميق الأزمة الاقتصادية التي واجهتها تونس، ما أضعف مسارها الديمقراطي وأدى إلى حالة من الإحباط الشعبي تجاه النظام السياسي الجديد.

أما مصر، فقد شهدت الثورة ضد نظام حسني مبارك عام 2011 واحدة من أكبر الحركات الشعبية في التاريخ الحديث. أدى ذلك إلى إجراء أول انتخابات ديمقراطية في البلاد عام 2012، التي أسفرت عن فوز الرئيس محمد مرسي. لكن هذه الديمقراطية الوليدة لم تصمد طويلًا؛ ففي عام 2013، أطاح انقلاب عسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي بالنظام الديمقراطي الوليد، ما أعاد البلاد إلى الحكم الاستبدادي. تشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة وبعض القوى الدولية دعمت هذا التحول العسكري للحفاظ على مصالحها الإقليمية، بما في ذلك التعاون الأمني مع إسرائيل وحماية قناة السويس.

دروس من الماضي واستمرارية في النمط

فيما نشعر بالفرح لفرح الناس عند سقوط الأنظمة الاستبدادية مثل نظام الأسد، علينا أن نكون حذرين من ثورة أو تغيير تقودها شخصيات ذات تاريخ معروف مثل أبو محمد الجولاني. فقد أظهرت التجارب السابقة أن التغيير الذي يُبنى على إيديولوجيات متطرفة أو قيادات ذات أجندات فئوية أو مشبوهة، قد يؤدي إلى استبداد جديد بأوجه مختلفة، يكرّس معاناة الشعوب بدلًا من تحريرها.

من هنا، يصبح واجبًا علينا أن نُقيّم مسارات التغيير بعناية، وأن نعمل على ضمان أن يكون المستقبل مبنيًا على قيم الحرية، العدالة، والديمقراطية الحقيقية، وليس مجرد استبدال طاغية بآخر أو نظام قمعي بآخر.

التغيير الحقيقي يبدأ بوعي شعبي وإرادة جماعية لا تسمح لأعداء الحرية بسرقة ثورات الشعوب.

اقرأ/ي أيضًا | سوريّة: التفاؤل الحذر