ما زال تصريح وزير الأمن الإسرائيلي السابق موشيه يعلون بأن الجيش الإسرائيلي يرتكب جرائم تطهير عرقي في شمال قطاع غزّة، يتصادى في إسرائيل، ولا سيما في ضوء تأكيده أن هذه الجرائم هي نهج أحزاب اليمين المتطرّف في الحكومة الإسرائيلية وليس نهج الجيش الإسرائيلي أو سائر ألوان الطيف السياسي الحزبي.
ومن وجهة النظر التشخيصية الأكثر لفتاً للانتباه، أكّد بعضهم عدة حقائق، أبرزتها الحرب على غزّة، وفي الوقت عينه، ربطت بين ما كان وما هو حاصل، منها أنه لم يعد في الإمكان الادّعاء أنه يوجد فاصل في مجالي المسؤولية والذنب بين الجيش والقيادة السياسية، وأن ما يجري ليس تجسيداً للجانب الظلاميّ في المشروع الصهيوني، بل هو المشروع الصهيوني قلباً وقالباً، مثلما أكد الكاتب كوبي نيف مثلا.
وسبق لكاتب هذه السطور أن أورد تشخيصاتٍ إسرائيلية صائبة بشأن الصهيونية، شدّدت على أن شعار "احتلال البلد" أو شعار "أرض أكثر وعرب أقل" لم يكونا ديدن صهيونية يمينية فحسب، إنما كانا أيضا ضمن شعاراتٍ صهيونيةٍ يساريةٍ تدّعي الاعتدال. ووفقاً لأحد المؤرّخين الراديكاليين، كانت أهمية هذه الصهيونية اليسارية، من نواحٍ كثيرة، تفوق بكثير أهمية الصهيونية العمومية واليمينية، لأنها وفّرت درعاً أيديولوجيّاً بطرحها الصهيونية حركة اشتراكية تتبنّى المساواة، وتتطلع بشدّة إلى التعاون والسلام مع السكان العرب الأصليين.
وتُطرح مقاربة التطهير العرقي في جدول الأعمال الإسرائيلي بين الفينة والأخرى. وعلى سبيل الاستعادة قبل أكثر من ثمانية أعوام، ادّعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن إزالة الاستيطان الاستعماري في الأراضي المحتلة منذ 1967 تطهير عرقي.
وتصدّى له البروفيسور دانييل بلتمان، المتخصّص في دراسة الهولوكوست، فأشار إلى أن مجلس الأمن شكّل، في عام 1992، لجنة خبراء دولية، هدفها عرض تعريف متفق عليه لظواهر التطهير العرقي، ومنح جهاز القضاء الدولي الأدوات اللازمة لتعريف الجريمة ومعاقبة المسؤولين عنها. وفي إحدى ملاحظات اللجنة، جرى تعريف التطهير العرقي "أفعالاً كفيلة بأن تتسبّب بهدم مطلق أو جزئي لجماعة من البشر".
وورد في سياق لاحق أن الحديث يدور حول "اقتلاع جماعيٍّ لسكانٍ من منطقة ما إلى أخرى، يمكنه، تحت وطأة هذه الظروف، أن يؤدّي إلى موت السكان المقتلَعين (على نحو مطلق أو جزئي)، مثلاً، إذا ما اضطرّ الأشخاص الذين طُردوا من بيوتهم إلى أن يسافروا مسافات طويلة، وأن يكونوا فيها عرضة للجوع والعطش والحرّ والبرد والأوبئة". وكان هدف هذه الصياغة فحص نقاط تماسّ بين التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وفحص في أي ظروف يتطوّر فيها التطهير العرقي إلى جريمة إبادة شعب.
بناء على ذلك خلص هذا الخبير إلى نتيجتين: الأولى، أن الادّعاء أن إخلاء اليهود من مستوطنات قررت الدولة إخلاءها (مثلما حدث في مستوطنات شبه جزيرة سيناء عام 1982 ومستوطنات "غوش قطيف" في قطاع غزّة عام 2005) تطهير عرقي، هو بمثابة هراء مطلق. وذلك لأن الدولة لا يمكنها أن تنفذ تطهيرا عرقيّا لسكانٍ ينتمون إلى الجماعة العرقية نفسها. ولا يمكن، في أي حال، وصف هؤلاء بأنهم جمهور بائس اقتُلع من بيته، ويعيش الجوع والعطش، ويُمسي عرضةً لخطر وجودي، فقد تعهدت إسرائيل بالحرص على العائلات التي أخليت، وخصّصت لهم مبالغ طائلة. وإذا ما أخلي في المستقبل مستوطنون من الأراضي المحتلة عام 1967، فعندها أيضاً ستحرص الدولة على توفير شبكة أمان تسمح لهم بأن يبدأوا من جديد حياتهم براحة تامة.
الثانية، أن الفلسطينيين هم الذين بقوا، منذ التطهير العرقي الذي ارتكب بحقهم في عام 1948، عرضة للجوع والفقر والعنف والطرد الإضافي من بيوتهم، وهم الذين يعيشون حياة عوز في "غيتو" ضخم في قطاع غزّة أو في مخيّمات اللاجئين في الضفة. وهذا أحد التشخيصات الغزيرة لمتلازمة الصهيونية والتطهير العرقي التي تتواتر من إسرائيليين.
اقرأ/ي أيضًا | ماذا بقي من "سلام" أوسلو؟