ارتفعت قيمة الليرة السوريّة أمام الدولار الأميركيّ بنحو 20% على الأقلّ خلال الأيّام القليلة الماضية وسط تدفّق السوريّين من لبنان والأردنّ، وانتهاء الضوابط الصارمة على تجارة العملات الأجنبيّة بعد سقوط نظام الأسد.

وأشار التجّار إلى عودة آلاف السوريّين الّذين سعوا إلى اللجوء في الخارج خلال الحرب الّتي استمرّت في البلاد لأكثر من 13 عامًا بالإضافة إلى استخدام الدولار الأميركيّ والعملة التركيّة في الأسواق كعوامل ساهمت في التغيير. في السابق، كان استخدام العملات الأجنبيّة في التجارة والمعاملات اليوميّة قد يؤدّي إلى السجن، ووصل الأمر إلى خوف الكثيرين حتّى من نطق كلمة "دولار" في الأماكن العامّة.

يأتي الارتفاع في قيمة العملة في وقت يعيش فيه أكثر من 90% من السوريّين تحت خطّ الفقر، حسب وكالات الأمم المتّحدة. ويأتي ذلك بعد حرب أضرّت بشكل كبير في قطاع النفط والسياحة وغيرها من القطاعات الرئيسيّة في البلاد. وتعرّضت تلك القطاعات لاختناقات بسبب سنوات من القتال بالإضافة إلى قطاع عامّ متهالك حيث يبلغ متوسّط ​​الأجور الشهريّة نحو 300 ألف ليرة سوريّة، أي ما يقارب 22 دولار أميركيّ.

تاريخ الليرة

بدأ الأمر مع انفصال الليرة السوريّة عن الفرنك الفرنسيّ العام 1947. حينئذ كانت سورية تعمل بموجب اتّفاقيّة "برايتون وودز" الّتي ضمّت أكثر من 44 دولة، وضمنت الاتّفاقيّة استقرار أسواق التبادل الماليّ بعد الحرب العالميّة الثانية. في ذلك الوقت، عندما كان الدولار مرتبطًا بالذهب، كان سعر صرف الليرة السوريّة الواحدة يساوي حوالي 45 سنتًا أميركيًّا، وبالتّالي كان الدولار الأميركيّ الواحد يساوي ليرتين سوريّتين.

ولكنّ الاتّفاقيّة لم تصمد كثيرًا، فمع فكّ ارتباط الدولار بالذهب في السبعينات، عن طريق مجموعة من التدابير الاقتصاديّة الّتي قام بها الرئيس الأميركيّ حينها ريتشارد نيكسون، سقطت الاتّفاقيّة الّتي جرى التوقيع عليها في غابات برايتون الأميركيّة، وعوّمت العملات العالميّة أمام الدولار. حينها ربطت الليرة السوريّة بالدولار الأميركيّ، وتحدّد سعر الصرف عندها عند 3.95 أي أنّ الدولار الواحد يساوي ما يقارب 4 ليرات سوريّة.

في ذلك الوقت كانت أسعار المنازل في العاصمة دمشق تقدّر بأسعار مثل 10 آلاف ليرة سوريّة للمنزل الّذي تبلغ مساحته 120 مترًا مربّعًا! وفي تلك الفترة أيضًا كانت رواتب الموظّفين الحكوميّين تبلغ حوالي الـ 150 ليرة وأكثر بقليل إن كان يحمل شهادة "البكالوريا".

صمد سعر الصرف الليرة أمام الدولار لأكثر من 10 سنوات حتّى بداية الثمانينات، حين قامت السلطات حينها باتّباع سياسات "تعدّد أسعار الصرف" في محاولة للحفاظ على استقرار الأسعار في البلاد، بالإضافة إلى تحديد سعر صرف مختلف لأغراض التصدير فقط لتشجيع الاستيراد وخفض تكاليف الصناعة الوطنيّة.

واستمرّ الحال بعد ربط الليرة السوريّة بالدولار بأسعار تصريف حسب العرض والطلب بشكل أساسيّ وحسب الأحوال الاقتصاديّة في البلاد، فبلغ معدّل صرف الليرة السوريّة في الفترة ما بين 1995 وعام 2001 حوالي 50 ليرة سوريّة مقابل الدولار. ويعود ذلك الثبات النسبيّ إلى الأحوال النموّ الاقتصاديّ والاستقرار السياسيّ حينئذ بالإضافة إلى القانون رقم 10 للعام 1991 الّذي أقرّه مجلس الشعب السوريّ، وأتاح الاستثمار في المشاريع السوريّة.

وأسهم القانون في زيادة عدد المشاريع الاستثماريّة، وانعكس ذلك على القطاع السياحيّ والميزان الاقتصاديّ بشكل عامّ. ولكنّ الارتفاع الكبير في التضخّم في سنة 1993 الّذي وصل إلى 13.2% ساهم بشكل كبير بأن تفقّد الليرة السوريّة جزءًا من قيمتها. وجاء التضخّم حسب الخبراء بسبب سياسة الانفتاح الاقتصاديّ، خاصّة بعد القانون رقم 10، وبالتالي ارتفاع أجور العمّال ومنهم العاملون في القطاع العامّ. ولكن سرعان ما انخفض التضخّم، في السنوات التالية بشكل كبير حتّى وصل إلى نقطة الصفر. بعد ذلك وصلت سورية إلى مستويات "سالب" تضخّم أو معدّلات تضخّم تحت الصفر، حتّى وصل إلى -2.1% في العام 1999.

في العام 2000 استلم الرئيس المخلوع بشّار الأسد زمام السلطة. ويشير الخبراء الاقتصاديّون إلى أنّ "رؤى" الأسد للإصلاح والتطوير والانفتاح الاقتصاديّ أدّت إلى عجز في الميزان التجاريّ بقيمة 350 مليار ليرة سوريّة. والميزان التجاريّ يعنى به الفرق بين قيمة الواردات والصادرات. إذًا، في تلك السنوات كانت سورية تصرف على الصادرات أكثر من دخلها من الواردات! وارتفع التضخّم حتّى وصل إلى أرقام خياليّة وصلت 15% خلال تلك الفترة. وارتفعت معدّلات البطالة إلى حدود الـ 30%.

وحسب الخبراء، فإنّ تلك السياسات الاقتصاديّة، الّتي أتت بالاتّفاق ومباركة صندوق النقد الدوليّ، أدّت إلى تراجع مساهمة الزراعة والصناعة في الدخل القوميّ، وأغلقت آلاف الورش والمصانع، وتمّ تهميش الريف وارتفاع نسب البطالة والفقر وتعميق عدم عدالة توزيع الدخل القوميّ وانتشار الفساد، وبالنظر إلى ما خلقه الاقتصاد السوريّ من فرص عمل في الفترة بين 2000 و 2010 والبالغة نحو 400 ألف فرصة، بمعدّل نموّ سنويّ مقداره 0.9%، يمكن القول إنّ الادّعاء بأنّ الاقتصاد السوريّ حقّق نموًّا في تلك الفترة ليس حقيقيًّا.

في نفس الفترة الواقعة بين عام 2000 وعام 2010 لم يشفع لحكومات بشّار الأسد سنّ تشريعات وقوانين لدفع الاقتصاد نحو النموّ. من تلك القوانين كان القانون رقم 28 لعام 2001 الّذي سمح بتأسيس المصارف والبنوك الخاصّة والقانون رقم 22 لعام 2005 الّذي مهّد لتأسيس هيئة الأوراق الماليّة السوريّة والقانون الّذي تلاه في العام 2006، وحمل الرقم 24، والّذي سمح بتأسيس محلّات وشركات الصرافة ومنح حرّيّة أكبر في تداول وبيع وشراء النقد الأجنبيّ؛ وبالتّالي أصبح لدى المستوردين القدرة على شراء العملة الصعبة من محلّات الصرافة البنوك الرخصة والمصرّح لها بذلك.

ثبّت سعر صرف الليرة السوريّة في الأعوام 2003 و 2004 و 2005 عند معدّل 52 ليرة سوريّة تقريبًا مقابل الدولار. ولكنّ ارتفاع التضخّم والانفتاح الاقتصاديّ وزيادة الاعتماد بشكل كبير على الاستيراد رفع أسعار الصرف إلى 67 ليرة مقابل الدولار في العام 2006.

ما بعد الثورة

بعد بداية الثورة السوريّة في العام 2011، بدأ سعر صرف الليرة بالانخفاض التدريجيّ نتيجة لتلك التقلّبات السياسيّة وانعدام ثقة المستثمرين بالسوق السوريّة. وانخفضت قيمة الليرة أمام الدولار من 47 ليرة إلى مستويات قياسيّة في العام 2016 حيث وصل السعر إلى 645 ليرة مقابل الدولار في أيّار/مايو ليرتفع مجدّدًا في العام 2017 ليتراوح بين 410 و 550 ليرة.

بشكل منطقيّ، تأثّرت العملة بعدّة عوامل ناتجة عن التقلّبات السياسيّة وعوامل أخرى أتت كنتائج لسياسات البنك المركزيّ السوريّ، إذ لم يتمكّن البنك من وضع استراتيجيّة تدعم الاستقرار في ظلّ التقلّب الحاصل. ويشير المحلّلون إلى أنّ قرارات البنك اتّسمت بالتخبّط مثل قرار السماح باستبدال أو صرف مبالغ إلى حدّ 10 آلاف دولار وبعد ذلك إلغاء القانون والمطالبة بإرجاع الأموال تحت طائلة المسؤوليّة. واستمرّ الارتفاع التدريجيّ للدولار أمام الليرة السوريّة عبر شركات الصرافة والبنوك والّذي زاد الطين بلّة كان السماح للمصارف الخاصّة التعامل بأسعار صرف خارج نشرة البنك المركزيّ.

ومن جهتها تسبّبت العقوبات المفروضة على نظام الأسد في شلل شبه كامل في قطاعات الإنتاج الأساسيّة في البلاد، ممّا أدّى إلى تراجع الإيرادات، ورافق ذلك إنفاق كبير جرّاء العمليّات العسكريّة المستمرّة. وانعدمت الصادرات تقريبًا وخرجت من البلاد مليارات الدولارات مع المستثمرين الّذين أوقفوا عمليّاتهم ومصانعهم في البلاد.

ولربّما كان التضخّم ثاني أكبر الأرقام الّتي ارتفعت خلال الأزمة بعد سعر الصرف، ولم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ، بل وصل إلى الركود التضخّميّ، فإن كان الركود هو الارتفاع المستمرّ في أسعار السلع والخدمات ومستويات الأسعار، وينتج عنه انخفاض في القوّة الشرائيّة للعملة، أي وبلغة بسيطة تتوقّف الليرة عن كونها ليرة لتصبح تحمّل نصف أو ربع قيمتها، فإنّ التضخّم الركوديّ أسوأ بمراحل، إذ يعرف على أنّه معضلة صعبة اقتصاديًّا ترتفع فيها الأسعار رغم ضعف الطلب عليها.

ومن القطاعات الّتي تضرّرت بشكل كبير من العقوبات كان قطّاع النفط والقطاع الماليّ، بالإضافة إلى التصدير والتجارة الخارجيّة. أضف إلى ذلك تحرير الحكومة لأسعار السلع الأساسيّة وتقليص الدعم للتركيز على الإنفاق العسكريّ ودفع رواتب الحكومة؛ وبالتّالي، ارتفعت أسعار الخبز والمحروقات والكهرباء، إن وجدت.