رغم مرور أكثر من 11 قرنًا على تأسيس مدينة المهديّة شرقيّ تونس على يد الفاطميّين، لا تزال أهمّ المعالم الّتي أنشأها الخلفاء تجذب الزوّار وتثير شغف علماء الآثار.
وعلى عكس عدد من المدن الإسلاميّة ذات الأبواب المتعدّدة، والّتي تأسّست في العصر الوسيط، لا يمكن دخول مدينة المهديّة العتيقة إلّا من باب "زويلة" أو "الفتوح" وفق التسمية الثانية له.
وتمتدّ مدينة المهديّة العتيقة على مسافة 1.4 كيلومترًا ويحيط بها البحر من الجنوب والشرق والشمال.
التأسيس
الدكتور رياض المرابط، أستاذ الآثار الإسلاميّة بالجامعة التونسيّة، قال إنّ "تأسيس مدينة المهديّة جاء في إطار خيار استراتيجيّ للخلافة الفاطميّة، وضرورة أن يكون لها مركز آمن للسلطة".
وأضاف: "الاعتبار الاستراتيجيّ كان الانفتاح على الشرق والبحر، حيث تركّزت عيون الفاطميّين".
وأوضح المرابط أنّ هناك اعتباراً ثانياً لتأسيس المدينة وهو "التقليد السائد لدى حكّام العصر الوسيط بفصل المدن العامّة عن الخاصّة".
وقال أستاذ الآثار الإسلاميّة إنّ "عبيد اللّه المهدي أسّس مدينة المهديّة المحصّنة عام 300 هـ (912/913 م) ومدينة زويلة المقابلة لها، وبينهما رمية سهم من 200 إلى 300 متر فقط".
وقال المرابط: "زويلة هي مدينة العامّة وفيها أسواقهم، والمهدية هي المدينة المحصّنة المرعبة، ذات المدخل الوحيد الخاصّة بالخليفة وعلية القوم، ولكن في نفس الوقت فيها أسواق أيضًا".
تراث الفاطميّين
وقال المرابط إنّ الآثار الفاطميّة في المدينة تعرّضت لعمليّات "محو رهيبة وحيثما تذهب تجد مطرقة فسخ للنقائش التأسيسيّة الّتي تركها الفاطميّون".
وأضاف: "تعدّ مدينة المهديّة بشكل خاصّ وقلعة بني حمّاد (الجزائر) ومدينة أجدابيا ( ليبيا) من أهمّ المواقع الّتي تحفظ روعة التراث الفاطميّ".
وأشار المرابط إلى تحصينات المدينة، حيث تحوي أسوارها ممشى دفاعياً يسمح بمرور 3 من الخيّالة، وعند النظر إلى أساسات الأسوار تجدها مبنيّة من حجارة كبيرة بعمق يتجاوز 4 أمتار".
وتابع: "أسوار المدينة المنيعة والعالية صمدت في وجه الغزاة إلى أواسط القرن السادس عشر، حين قرّر شارل الخامس (1550) معاقبة المهديّة بتخريب كلّ أسوارها عند مغادرتها، حتّى لا تبقى قلعة للمحتمين بها".
قبور لحفظ الذاكرة
وقال المرابط إنّ "من الطريف أنّ الذاكرة الشعبيّة حوّلت ركام سور المدينة إلى رمز للقداسة، فكلّ جزء منه تحوّل في المعتقد الشعبيّ إلى مقام لوليّ صالح؛ فهناك للا البحريّة وللا الحمراء وسيدي الصنوبري وغيرهم".
وأضاف: "كلّ من يزور المهديّة يستغرب وجود مقبرة في ساحل المدينة، والحقيقة أنّ كلّ المقبرة مقامة على الآثار الفاطميّة كنوع من وسائل حماية الأحفاد لآثار الأسلاف بطريقة توحي أنّ الناس يحمون التراث بأجسادهم".
الجامع الكبير
وقال المرابط: "بعد باب المدينة تأتي منطقة الأسواق، وفي الأسفل نجد الجامع الكبير، حيث تمّ ردم جزء من البحر لبناء المسجد الّذي يبدو على هيئة قلعة".
وأوضح أنّ الجامع كان يعدّ "طرازًا معماريًّا جديدًا بالنسبة للعمارة الإفريقيّة آنذاك، لأنّه يجمع بين الطراز القيروانيّ القائم على ما يشبه حرف التاء اللاتينيّة تشمل بلاطة وسطى عريضة في بيت الصلاة ورواق قبلي عريض".
وقال أستاذ الآثار الإسلاميّة إنّ الجامع تعرّض لعدّة تحويرات وأعيد بناؤه على قواعده الأصليّة عام 1962.
ووفق المرابط: "لم يبق من الجامع أيّ آثار أصليّة تعود للفترة الفاطميّة سوى واجهته الجوفيّة الّتي تتميّز بالمدخل البارز على هيئة قوس نصر، وعلى الجانبين برجان، إضافة إلى خزّانات ضخمة للماء".
ميناء محفور في الصخر
وبخصوص الإرث البحريّ للفاطميّين، قال المرابط إنّ مدينة المهديّة كان لها "باب واحد وسوران وبينها خندق، ويمكن النفاذ إليها فقط من الميناء".
وأضاف: "الميناء منقور في الصخر داخل المدينة، وفيه حوضان؛ حوض مستطيل نشاهده اليوم، وحوض آخر داخليّ".
وتابع: "من حيث القيمة الفنّيّة، يعدّ ميناء المدينة أعظم ميناء بعد ميناء قرطاج، حيث تمّ نحته في الصخر، والفاطميّون اعتمدوا على قبيلة كتامة ذات التقاليد الضاربة في القدم في نقر الصخر، وتسمّى بلادنا ببلاد ناحتي الحجارة".
وبالنسبة لصناعة السفن، قال المرابط إنّ المدينة كانت تحوي داران للصناعة، واحدة شرقيّ قصر المهدي والميناء، لم يبق فيها بناء واضح، وأخرى قرب الجامع، ولا تزال بقاياها إلى اليوم.
برج الرأس
وعلى بعد مئات الأمتار الّتي تمتدّ عليها مقبرة المدينة، يبدو للزائر من ناحية الجنوب برج كبير فوق ربوة.
أستاذ الآثار الإسلاميّة قال إنّ المهديّة اكتسبت أهمّيّة خاصّة في الفترة العثمانيّة، حيث بني فيها حصن "برج الرأس"، وهو حصن عثمانيّ بني على جزء من موروثات فاطميّة، وليس هو قصر المهدي كما يعتقد الكثيرون.
وأوضح أنّ جزءًا من البرج "بني على قصر القائم بأمر اللّه (934/945 م) ومدخله هو نفس مدخل القصر الّذي نبحث عنه منذ عصور".
وأضاف المرابط: "مخطّط مدينة المهديّة الفاطميّة الّذي نقل فيما بعد إلى مصر فيه سور له مدخل واحد محصّن (باب زويلة) على هيئة أسد رابض".
وتابع: "عندما نشاهد باب زويلة (ويسمّى باب الفتوح وشعبيًّا السقيفة الكحلة) من ناحية جانبيّة، نرى أنّ له جسماً متقدماً عالياً ( كتلة معماريّة عالية) وظهر طويل كشكل الأسد الّذي كان الشعار الرسميّ للخلافة الفاطميّة، وفي المتحف الإسلاميّ في القاهرة أنّ كلّ التحف الفاطميّة من أبواب وغيرها عليها صورة الأسد".